مع اقرار مجلس النواب اليوم مشروعي قانونين لفتح اعتمادات اضافية بقيمة 6278 مليار ليرة لتغطية النفقات العامّة في عام 2016، تكون الحكومات المتعاقبة قد انفقت اكثر من 58.5 مليار دولار اضافية على آخر قانون للموازنة صدر في عام 2005. البعض يرى ان كل انفاق خارج قاعدة الاثني عشرية غير شرعي حتى لو قوننه “البرلمان”، فيما يرى البعض الآخر ان كل انفاق من دون قانون للموازنة غير شرعي “لان الموازنة سنوية ولا تمتد صلاحيتها الا لسنة واحدة”.
في عام 2005، أقر مجلس النواب قانون الموازنة الأخير للدولة. توالت السنون بعدها والدولة من دون موازنة سنوية، الحكومات تنفق مليارات الدولارات من دون احترام احكام الدستور، ومن دون أن يسأل أحد أين تذهب هذه الأموال العامة. اخترعت الحكومات المتعاقبة حججاً واجتهادات تبرر فيها إنفاقها، لكنها بقيت جميعها غير دستورية، بحسب اراء العديد من الخبراء الدستوريين. عام 2010 إستفاقت بعض القوى السياسية “فجأة” على إنفاق إضافي يتجاوز اعتمادات قانون موازنة عام 2005 بقيمة 11 مليار دولار في فترة 2006 – 2009.
أخذت “الفضيحة” بضعة أسابيع من النقاش لتُغلق بعدها من دون أي نتيجة، ولتغلق معها كل الابواب لاصدار قوانين الموازنات السنوية بانتظار تسوية تقوم على مبدأ “العفو عن المخالفات”. اليوم وغداً، سيناقش مجلس النواب اقتراح قانون لإقرار إنفاق إضافي لعام 2016، من دون قانون موازنة أيضاً، يبلغ 5417 مليار ليرة، اضافة الى اقتراح قانون لفتح الاعتماد الاضافي المخصص للرواتب والاجور، الذي وُضع أيضاً على جدول أعمال المجلس، ويبلغ 861 مليار ليرة، ما يجعل الإنفاق الإضافي لسنة 2016 نحو 6278 مليار ليرة. ما كان 11 مليار دولار في عام 2009، سيصبح في عام 2016 اكثر من 58.5 مليار دولار، جميعها إنفاق غير شرعي، حتى لو ان بعضه صدرت له قوانين لتغطيته.
هو “تشريع المخالفة” اذاً، لا “تشريع الضرورة”، ليس هذا فحسب، بل إن اقتراحي القانونين يفضحان “التهويل” الممارس دائما بوقف معاشات وأجور الموظفين بحجة عدم وجود التغطية القانونية. فالواضح من جدول الأعمال أنّ المبلغ الأكبر من الإنفاق الاضافي لا علاقة له بالرواتب والاجور، إذ ان اقتراح القانون الخاص بتغطية الانفاق الاضافي على الرواتب والاجور لا يتجاوز 861 مليار ليرة، فيما يبلغ اقتراح القانون الخاص بالانفاق الاضافي على البنود الاخرى 5417 مليار ليرة، يعود الجزء الأكبر منه (4274 مليار) الى نفقات جارية، في مقابل 1143 مليار للنفقات الإستثمارية (مشاريع وصيانة)، لكن على ماذا ستصرف الحكومة هذه النفقات الإضافية عام 2016؟
بحسب اقتراح القانون المطروح خصصت نسبة 30% من الإنفاق الإضافي لخدمة الدين العام، وهو المبلغ الأكبر ضمن الجدول المطروح، إذ ستزداد خدمة الدين العام السنة المقبلة بمبلغ 1611 مليار ليرة، ما يعني زيادة كبيرة في الدين العام وفي كلفة الفوائد، وبالتالي زيادة كبيرة في أرباح المصارف، وهو ما لا يستطيع أرباب النظام “التهديد” بعدم تسديده مثلما يبتزون الناس في رواتبهم واجورهم. كذلك سيزداد دعم الدولة لمؤسسة كهرباء لبنان بمبلغ 484 مليار و800 مليون ليرة، وسيرتفع الإنفاق على معاشات التقاعد وتعويضات نهاية الخدمة بقيمة 864 مليار ليرة. أمّا المبلغ الباقي فيتوزع على مختلف الوزارات والإدارات مع وجود توجه واضح للإنفاق على نحو كبير على الأمن والجيش، إذ ستصرف الدولة نفقات تشغيلية إضافية لوزارتي الداخلية والدفاع بقيمة 402 مليار ليرة، كما ستحصل مؤسسات الطوائف عبر المحاكم الشرعية ودور الإفتاء من الدولة على مبلغ مليار و126 مليون ليرة كنفقات مضافة على المبالغ المخصصة لها.
بحسب قانون موازنة عام 2005، بلغ حجم النفقات العامة 10 الاف مليار ليرة، وسيرتفع في عام 2016 الى 22 الفا و933 مليار ليرة. انفاق الدولة يزداد بوتيرة سريعة سنة بعد سنة من دون الارتكاز الى قانون موازنة سنوية يفرضها الدستور كواجب لا مناص منها على الحكومة والبرلمان. واظبت الحكومة منذ عام 2006 حتى 2009 على وضع موازنات سنوية وإرسالها الى مجلس النواب الذي لم يناقشها ولم يقرّها، إذ رفض رئيس المجلس نبيه بري استلامها حينها بحجة “عدم ميثاقية الحكومة”. أما مشروع موازنة عام 2010، فقد جرت مناقشته في مجلس النواب من دون إقراره بسبب اكتشاف المجلس أن الحسابات غير منجزة جراء التشويه المتعمد في الحسابات، وبالتالي عدم موافقته على “حسابات السنة ما قبل السابقة”. في ظل هذه التجاوزات الفاضحة للدستور لم تعد تجد الحكومة جدوى من إرسال مشاريع قوانين الموازنة الى المجلس، فتابعت إنفاقها أعوام 2011، 2013، 2014 و2015 على الشكل نفسه المخالف للدستور.
منذ عام 2006 حتى 2009 كانت الحكومة تعلن أنها تنفق على اساس مشاريع الموازنات التي تضعها (والتي لم تصل الى مجلس النواب). بعد عام 2009 وحتى عام 2011 صار انفاقها يرتكز على سلف تمنحها الحكومة لنفسها وتمدد مهل سحبها إلى ما بعد الفترة القانونية ولا تسددها وفق القانون. اضافت الحكومة بذلك مخالفة دستورية على مخالفاتها، ولا سيما المادة 88 من الدستور التي تنص على أنه “لا يجوز عقد قرض عمومي ولا تعهد يترتب عليه إنفاق من مال الخزانة إلا بموجب قانون”، كما مثّل الأمر مخالفة صريحة للمادة 112 من قانون المحاسبة العمومية التي تنص على أن “الوزير مسؤول شخصيا على امواله الخاصة عن كل نفقة يعقدها متجاوزا الاعتمادات المفتوحة لوزارته”.
في عام 2012 أقر مجلس النواب القانون الرقم 238 الذي نص على فتح اعتماد إضافي لتغطية إنفاق عام 2012 بقيمة 9348 مليار و855 مليون ليرة. تلى ذلك قانونان آخران صدرا عام 2014: القانون الرقم 1 الذي ينص على فتح اعتماد إضافي في الموازنة العامة بقيمة 626 مليار و607 مليون ليرة لتغطية العجز في الرواتب والأجور وملحقاتها لغاية نهاية عام 2014. والقانون الرقم 15 الذي يقضي بفتح اعتماد اضافي في الموازنة بقيمة 340 مليار ليرة. جميع هذه الإجراءات تمثّل مخالفات دستورية خطيرة متعلقة بالتصرف بالمال العام، والمطروح اليوم على جدول أعمال الجلسة التشريعية هو تكرار لما جرى عامي 2012 و2014.
في مشروع القانون الذي قدّمه الى المجلس وزير المالية علي حسن خليل يتحدث الوزير عن الأسباب الموجبة لإقرار القانون مرتكزاً على طريقة الإنفاق التي تكرّست خلال السنوات الماضية بشكل مخالف للدستور وكأنها أصبحت قاعدة مسلّما بها، إذ يرى أنّ “طريقة الإنفاق المعتمدة حالياً هي ضمن سقف قانون موازنة عام 2005 إضافةً الى القانون 238/2012، والقانون الرقم 1/2014 والقانون الرقم 15/2014”.
يصرف أرباب النظام أموال الناس من دون أي رقابة، ويهددونهم عند كل أزمة بعدم دفع رواتبهم وأجورهم، أمّا مجلس شورى الدولة فيعتقد أنّ المسألة لا تتطلب استعجالاً، فالمراجعة المقدمة منذ عام لإتخاذ إجراء احترازي للإشراف والرقابة على التصرف بالأموال العامة وإبطال قرارات إدارية لتجاوزها حد السلطة، لم يبت بها حتى اليوم.
بين عامي 2006 و2016، سيبلغ مجمل الانفاق العام (الاضافي وغير الاضافي) اكثر من 131 مليار دولار. هناك من يرى ان كل هذا الانفاق غير دستوري، اذ ان الدستور لا يجيز استعمال القاعدة الاثني عشرية الا لشهر واحد فقط، هو كانون الثاني، باعتبار ان اصدار قانون الموازنة سنويا هو شرط واجب لا مناص منه، الا ان الحكومات المتعاقبة تعتمد هذه القاعدة منذ 132 شهرا.