اعتبرت أوساط معنية بتسوية الجلسة التشريعية لصحيفة “النهار” ان التوازن الذي اعتمد في تثبيت موعد الجلسة بجدول أعمالها المقرر وتعهد عدم المشاركة في أي جلسة أخرى لا تكون مخصصة لمناقشة ملف قانون الانتخاب، أخرج واقعيا كلا من الرئيس بري ورئيس “تكتل التغيير والاصلاح” العماد ميشال عون ورئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع في مراتب متساوية من المكاسب، علماً ان دوراً ملموساً لعبه وسطاء آخرون بينهم الوزير بطرس حرب والنائبان احمد فتفت وعاطف مجدلاني في مهمة لجنة جوالة لا يمكن انكاره في بلورة التسوية التي ولدت بعد ظهر امس.
ووصف مصدر مقرّب من الرابية لـ”النهار” ما حصل من تسوية على صعيد الجلسة التشريعية بالانتصار للشراكة، اذ ان هذا الحلّ حقق أربع نتائج إيجابية: أولاً، بقيت الجلسة على موعدها كما حدّدها الرئيس بري ولم يُكسر. ثانياً، لم تضرب الميثاقية وتمّ الحفاظ عليها لمصلحة كل مكوّن في لبنان وليس فقط المكوّن المسيحي، والحفاظ على الطابع الاستثنائي لتشريع الضرورة، اذ أدخل على رأس أولويات التشريع قانون الانتخاب لأنه الأساس لإعادة تكوين السلطة. ثالثاً، حصل الحزبان المعترضان على قانون استعادة الجنسية من دون تعديلات، وهو المتعلق بالهوية اللبنانية. رابعاً، أتاحت الجلسة إقرار القوانين المالية النائمة، أي مكافحة تبييض الأموال وتوزيع عائدات الخليوي. والأهم بالنسبة الى الرابية أنه تمّ تجميد مفعول ما دوّن في محضر جلسة التمديد الأولى لناحية عدم مقاربة قانون الانتخاب قبل انتخاب الرئيس.
بعد وحدة الموقف الذي تميّز به “التيار” و”القوات” والتناغم القوي بينهما، ثمة سؤال عن امكان التأسيس لأمر مستقبلي بينهما في الشارع المسيحي يعوّل عليه، أم ان الأمر كان مجرد تنسيق ظرفي لا أكثر. لا شك في أن هذه المرحلة أتاحت تظهير مواقف نوعية أكثر استجابة لما ورد في “اعلان النيات”، ومثاله ان ثمة حديثاً عن مشروع قانون انتخاب بينهما دخل حيز التنفيذ الأولي أو عن مقاربة الموضوع لجهة صحة التمثيل وفاعليته.
بالنسبة الى الرابية هذا التناغم “القواتي” – العوني لم يؤثر قطعاً على العلاقة بينها وبين حارة حريك. وثمة جزم بأن لا تصدّع على الاطلاق بين “التيار” و”حزب الله” ولا حتى خدش ولا شائبة في العلاقة. والأمر مبتوت بدليل ما قاله العماد عون أول من أمس عن ثبات العلاقة مع الحزب، “كأعمدة قلعة بعلبك”، وردّ السيد نصرالله أمس بقوله إن “الذهب يبقى ذهباً”.
أما عن العلاقة مع الرئيس برّي، فإن الرابية فهمت من خطاب السيد نصرالله ان الحلول “بالقطعة” لم تعد تفيد لأنها منهِكة ومستهلِكة للجهد، وبالتالي يؤكد المصدر المقرّب من الرابية انه تجنّباً للاستنزاف، فإن المقاربة مع الرئيس برّي لن تكون بعد اليوم “على القطعة” بل من منطلق استراتيجي وطني انقاذي يحاكي المصلحة الوطنية العليا التي تعكس حقوق كل المكونات الوطنية والدستورية. وتأمل الرابية ان يقارب بري الموضوع كما مقاربتها هي.
من جهتها، كتبت صحيفة “السفير”: على الطريقة اللبنانية المعتادة، وُلدت التسوية التشريعية في ربع الساعة الأخير، موزعة “عوائدها” بين أطراف الأزمة المستجدة. إنها “تسوية الضرورة” التي منحت الجميع حبل نجاة، قبل الغرق في رمال الميثاقية المتحركة، وانفلاش الأزمة في الشارع المحتقن طائفياً. صحيح ان متطلبات التكتيك السياسي أطالت أمد الرقص على حافة الهاوية، لكن الكل كان يدرك ان الانزلاق الى ما بعدها مكلف، وأن اللعبة قد تخرج حينها عن السيطرة، فكان لا بد من النزول عن الحافة قبل ان يفقد أي من اللاعبين توازنه او اتزانه.
من الرياض التي التقى فيها ما يشبه مجلس وزاري لبناني مصغر يعجز عن الاجتماع في لبنان، الى بيروت التي تلاحقت فيها الاجتماعات، احتدم السباق بين التسوية والشارع، الى ان وُلد المخرج والإخراج بجهد من نبيه بري، ميشال عون، سعد الحريري، سمير جعجع، وليد جنبلاط، و “حزب الله” مع تفاوت نسبة إسهام كل منهم في “تسوية الضرورة”.
ويمكن القول إن التفاهم على إقرار قانون الجنسية من دون تعديلات جوهرية كان العنصر الحاسم في الدفع نحو التسوية، أما ما اتُفق عليه في شأن قانون الانتخاب فهو أقرب الى “ربط نزاع” أو “إعلان نيات” سيكون موضع اختبار في المرحلة المقبلة، وبالتالي فإن هذا البند في التسوية يحمل رمزية سياسية أكثر مما يحمل نواة حل واضح.
وقد تركز البحث في هذا البند حول أمرين: كيف يمكن وضع سقف زمني للنقاش حول قانون الانتخاب حتى لا يظل هذا الملف عائماً في الوقت الضائع، وما هو المطلوب للحؤول دون ظهور أي طرف وكأنه خرج خاسراً من التفاوض بخصوص هذه النقطة، فكانت في الخلاصة المعادلة المعروفة وهي: لا جلسة تشريعية جديدة من دون قانون الانتخاب.
ويبدو واضحاً ان الجميع خرجوا من الأزمة رابحين، بفعل قابلية “التسوية المطاطة” للتأويل، كلٌ وفق موقعه:
– “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية” انتزعا التزاماً بإقرار قانوني استعادة الجنسية وتحرير أموال البلديات، وتعهداً بمناقشة وإقرار قانون الانتخاب في أول جلسة تشريعية لاحقة، إضافة الى تكريس ثنائية “التيار – القوات” التي أثبتت جدواها بمعايير الشارع المسيحي، في ترجمة لمفاعيل “إعلان النيات”.
– الرئيس نبيه بري حافظ على ثوابته، ولم يتراجع، برغم كل الضغوط، عن موقفه المعلن وهو عقد جلسة تشريع الضرورة في موعدها المحدد، ووفق جدول الاعمال المقرر. ولكن بري استطاع ان يمزج تصلبه هذا بمرونة تفاوضية قادته الى ان يكون عنصراً حاسماً في إنجاز التسوية بعد الضمانات التي قدمها بتصويت “كتلة التنمية والتحرير” على قانون استعداة الجنسية، بمعزل عن موقف “تيار المستقبل”، إضافة الى الليونة التي أبداها حيال المخرج المتعلق بقانون الانتخاب.
– الرئيس سعد الحريري قطف “زهرة التسوية” من خلال تطوعه للتعهد بعدم حضور أي جلسة تشريعية مستقبلاً، لا يتصدر قانون الانتخاب جدول أعمالها.
– “حزب الله” خرج من الإحراج سالماً، بعدما نجت العلاقة بين حليفيه من “وعكة صحية” صعبة، علماً أن الحزب أدى بعيداً عن الأضواء دوراً حيوياً في المساهمة في ترطيب الأجواء بين بري وعون.
رواية التسوية
بدأت نواة التسوية تتكون في الرياض، خلال الاجتماعات التي عُقدت أمس وأمس الأول بين الرئيس سعد الحريري والوفد اللبناني برئاسة الرئيس تمام سلام، وبين أعضاء الوفد أنفسهم لا سيما الوزيرين علي حسن خليل وجبران باسيل اللذين كانا على اتصال دائم مع عين التينة والرابية.
ومع بدء نضوج أفكار المخرج، نقل الرئيس سعد الحريري ليل أمس الاول الى رئيس حزب “القوات” سمير جعجع اقتراحات للمعالجة تتضمن، في أبرزها، التزامه الشخصي بعدم مشاركة “كتلة المستقبل” في أي جلسة تشريعية مقبلة لا تكون مخصصة لمناقشة قانون جديد للانتخاب وإقراره، والتصويت على قانون استعادة الجنسية من دون تعديلات اساسية.
على الفور، اتصل جعجع بالنائب ابراهيم كنعان في وقت متأخر من الليل ودعاه الى زيارته على عجل، “لأن هناك أموراً طارئة استجدت”. وبالفعل، توجه كنعان الى معراب حيث التقى جعجع حتى قرابة الواحدة والنصف فجراً، واطلع منه على اقتراحات الحريري.
وتحسباً لكل الاحتمالات، نوقشت في اجتماع معراب أيضا خطوات التصعيد التي كان سيتم اللجوء إليها، في حال فشل خيار التسوية، ومنها تنظيم تجمعات مشتركة لمحازبي “القوات” و “التيار” و “الكتائب” في بيروت وجميع المناطق التي تملك هذه القوى وجوداً فيها، إضافة الى الإضراب العام.
في السابعة صباح اليوم التالي، وصل كنعان الى الرابية حيث التقى العماد ميشال عون ونقل اليه اقتراحات الحريري وحصيلة اللقاء مع جعجع.
ولاستكمال الصورة، اتصل عون بوزير الخارجية جبران باسيل في الرياض، واطلع منه على أجواء الاجتماعات التي كانت تعقد في السعودية، سواء بين الحريري والوفد اللبناني المشارك في القمة العربية – الاميركية الجنوبية، او بين باسيل والوزير علي حسن خليل.
مع مرور الوقت، بدا أن التسوية آخذة في الاختمار، ولم تعد تنقصها سوى لمسات سياسية أخيرة.
وبالفعل، التقى بري أمس كنعان في عين التينة، حيث جرى استكمال كل عناصر التسوية، وهي:
إقرار قانون استعادة الجنسية وتحرير أموال البلديات، إدراج قانون الانتخاب على رأس جدول أعمال الجلسة التشريعية المقبلة، تشكيل لجنة نيابية مصغرة من جميع الكتل مع مهلة شهرين لإنجاز مشروع قانون انتخاب متوافق عليه، وفي حال فشل اللجنة تتم إحالة كل المشاريع الانتخابية المطروحة الى اللجان المشتركة.
وخلال الاجتماع، اتصل كنعان بعون، وأبلغه بالنتائج الإيجابية التي تقرر في ضوئها وقف التحرك في الشارع، ثم تحادث بري وعون عبر الهاتف، فقال الأول للثاني: مبروك.. وعقبال المصالحات المقبلة، فأجابه الجنرال مبتسماً: هذا يعني أنك تتوقع مشكلات إضافية..
ووفق السيناريو المعدّ، يُفترض ان يطلب “التيار” خلال جلسة اليوم سحب التوصية السابقة الصادرة عن مجلس النواب بعدم إقرار قانون الانتخاب قبل انتخاب رئيس الجمهورية.
مبادرة نصرالله
وبالتزامن مع نضوج تسوية الجلسة التشريعية، أطلق الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله ما يشبه “المبادرة السياسية”، داعياً الى تسوية داخلية شاملة، لا تنتظر الخارج.
وقال نصرالله خلال الاحتفال أمس بـ “يوم الشهيد” إنّ المعالجة بالحبّة، أي بالموضوع، متعبة جداً ولا توصل غالباً إلى نتيجة. أضاف: تعالوا لنضع الأمور الأساسية في سلة واحدة وننجز تسوية، وعندما أقول تسوية يعني الناس بدها تأخذ وتعطي، من أجل مصلحة البلد.
ودعا الى عدم انتظار أي شيء من الخارج، “لأن الخارج كله مشغول عنّا”.
وتابع: تعالوا لنتحدث في رئاسة الجمهورية، الحكومة المستقبلية، رئيس الحكومة، تركيبة الحكومة، عمل المجلس النيابي، وقانون الانتخاب. وفي الرئاسة، لا أحد يواجهنا بأننا نتخلى عن مرشحنا. يمكن أن يكون النقاش في التسوية أن هذا مرشح فريقنا لرئاسة الجمهورية ونحن نصرّ على هذا الترشيح، لكن نفتح باب نقاش حتى تقبلوا به.
واعتبر ان قانون الانتخاب هو العامل الاساسي في إعادة تكوين السلطة، وهذا الموضوع ليس بسيطاً بل بحاجة الى نقاش حقيقي.
ولفت الانتباه الى أن “هناك أناساً ينتظرون 7 أيار جديداً أو شيئاً مشابهاً. هذا التفكير خطأ، 7 أيار أعود وأذكر كان رد فعل على 5 أيار ودفاعاً عن سلاح المقاومة، هذا هدفه، لكن نتيجته كانت مؤتمر الدوحة. لكن لو اليوم أي أحد قام بشيء مثل 7 أيار، لا يوجد في العالم العربي من يستطيع أن يأتي ويلم الناس ويضعهم في طائرة”.
وقال: من دون تضييع الوقت، ومن دون هذا الاستنزاف للناس، القوى السياسية الحقيقية في لبنان مدعوّة إلى تسوية سياسية حقيقية، سواء عبر الحوار الذي يرعاه الرئيس بري في المجلس النيابي أو عبر شكل آخر، هذه في النهاية آليات نقاش، ولكن هذا هو المخرج”.