Site icon IMLebanon

محاولات محمومة لقصقصة أجنحة البنوك المركزية

janet-yellen-federal-reserve-fed-US
فرديناندو جوليانو من لندن وسام فليمينج من واشنطن وكلير جونز من فرانكفورت

في أوائل القرن التاسع عشر قال المختص الاقتصادي البريطاني، ديفيد ريكاردو، إن البنوك المركزية ينبغي ألا تقع أبدا تحت السيطرة الحكومية “ولو بأدنى درجة”. اليوم، يعمل كثير من أكبر البنوك المركزية بشكل أقرب لهذا التصور الأمثل أكثر من أي وقت مضى.

يمارس محافظو البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم – من الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي حتى بنك إنجلترا – السلطة والاستقلالية التي كان من الممكن أن يكافح أسلافهم لتحقيقها.

فقد أوجدوا منذ الأزمة المالية العالمية، أدوات جديدة مثل القدرة على شراء تريليونات من الأصول لدعم اقتصاداتهم، مع اكتساب مسؤوليات تنظيمية رقابية أعمق على المصارف والأسواق. تلك الحريات أدت إلى تعرض محافظي البنوك المركزية لانتقادات جديدة، بما في ذلك ادعاءات بأنهم يحاولون، بتعال، ترويض دورة الأعمال التجارية وفي الوقت نفسه تخزين التهديدات المتمثلة في انهيارات أكبر في الطريق.كذلك دفعت التدخلات لمكافحة الأزمة هؤلاء التكنوقراطيين غير المنتخبين إلى إجراء مناقشات مشحونة سياسيا حول توزيع الدخل وعدم المساواة. وعملت أيضا على انشغالهم بالحدود الخطرة بين السياسات النقدية وسياسات الميزانية عقب شراء كميات ضخمة من السندات الحكومية من خلال برامج “التسهيل الكمي”.

وبناء على ذلك، أصبح المزاج السياسي المحيط بالبنوك المركزية قارصا وحقودا. في الولايات المتحدة، حول الجناح اليميني للحزب الجمهوري الاحتياطي الفيدرالي إلى كبش الفداء الذي يلقى عليه باللوم في أخطاء الآخرين. واتهم تيد كروز، الذي يسعى للحصول على ترشيح حزبه للرئاسة، الاحتياطي الفيدرالي في الشهر الماضي بأنه “اعتصر” الاقتصاد بأسعار الفائدة المنخفضة. وهو يجادل لمصلحة رقابة الكونجرس الأكثر صرامة والعودة إلى معيار الذهب.

في منطقة اليورو، تعرض البنك المركزي الأوروبي لانتقادات بسبب مشاركته، إلى جانب صندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية، في اللجنة الثلاثية “ترويكا” التي تعالج مسائل الإنقاذ في اليونان والبرتغال وغيرهما من أعضاء الاتحاد الأوروبي الأضعف. وفي بريطانيا، اتهم مارك كارني، محافظ بنك إنجلترا، بتطاول خطاباته حول مواضيع حساسة، مثل التغير المناخي وعضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي، التي يعتقد هو أنها متوافقة مع اختصاصات بنك إنجلترا.

في هذا الجو المحموم، يقول بعض المختصين إن استقلالية البنوك المركزية العزيزة معرضة للخطر. يقول وليم بويتر، كبير الاقتصاديين لدى سيتي بانك والعضو السابق في لجنة السياسة النقدية التابعة لبنك إنجلترا: “إن أداء محافظي البنوك المركزية يفوق ثقلهم. وهذا قد يؤدي إلى رد فعل عنيف وخسارة البنوك المركزية استقلاليتها التشغيلية، حتى حيث يكون هذا الاستقلال منطقيا – في تصميم وإدارة السياسات النقدية، المعرفة في حدها الضيق”.

وسيطر المثل الأعلى لريكاردو المتعلق باستقلالية البنوك المركزية – قدرة البنك المركزي على تحديد وضبط السياسات النقدية دون تدخل – فقط خلال العقود الأخيرة. عوامل الجاذبية باتت واضحة. بالحفاظ على مسافة بين عملية تحديد أسعار الفائدة وبين السياسة، يتم تحديد الأسعار بحسب التضخم المنخفض والمستقر، وليس الملاءمة السياسية قصيرة الأمد.

دور متضخم

حتى حدوث الأزمة، كان يبدو الأمر وكأنهم استخدموا صيغة سحرية. خلال جزء كبير من فترة التسعينيات والعقد الأول من القرن الحالي، تمتعت كبريات الاقتصادات بتضخم منخفض ومستقر، جنبا إلى جنب مع نمو مطرد نسبيا في عصر يعرف باسم “فترة الاعتدال الكبير”.

وتبين أن تلك الظروف كانت وهما. في العقد الأول من القرن الحالي فشل معظم مسؤولي البنوك المركزية في تسليط الضوء على المخاطر المتنامية في النظام المصرفي، أو حتى الإقرار بها ـ وهو إغفال كانت له عواقب وخيمة عندما أدى الانهيار المالي إلى أسوأ ركود في العالم بعد عام 1945. مع ذلك، وهذا من المفارقات، خرجت البنوك المركزية من الأزمة أقوى من أي وقت مضى.

والسؤال الذي يتم تداوله على الجانبين، اليميني واليساري، هو ما إذا كانت قد أصبحت إقطاعيات السياسة النقدية للبنوك المركزية توسعية جدا. ويقول كثيرون إن السلطات النقدية ينبغي لها التركيز على مهمتها الأساسية – الإبقاء على التضخم عند الرقم المستهدف – وهو هدف تناضل من أجل الوفاء به.

ويعتقد كثير من مراقبي البنوك المركزية أن فكرة الاستقلال تحتاج إلى أن يتم تحديثها في ضوء الأدوات التي اكتسبتها السلطات النقدية. فكلما ازدادت السلطات والمسؤوليات التي يتم منحها للبنوك المركزية، ازداد خطر اتخاذها خيارات مشحونة سياسيا، بحسب ما يجادل ستيفن كينج، كبير المستشارين الاقتصاديين لدىHSBC. ويقول: “من المرجح أن يتم تصور فشل البنك المركزي إذا كان مثقلا بعدد وافر من الأهداف المتعارضة”. ويضيف: “النتيجة ستكون هناك مطالب من أجل توسيع مجال المساءلة للهيئات التشريعية المنتخبة”.

في الولايات المتحدة، يواجه الاحتياطي الفيدرالي وابلا من التحديات التشريعية من الكونجرس بخصوص استقلاله، ويشعر كثير من المشرعين بالقلق بسبب تدخلاته البالغة تريليونات الدولارات في عصر الأزمة. وتراوح المقترحات من متطلبات الإبلاغ المعزز إلى قيود أكثر أهمية حول كيفية إدارة البنك المركزي للسياسة النقدية والقروض الطارئة.

ومن المرجح أن قلة فقط من تلك المبادرات سوف تتحول إلى قوانين، إلا أنها تأتي وسط مناخ سياسي مستقطب يثبت أن السير فيه أمر شاق بالنسبة لمسؤولي البنوك المركزية. يجادل روجر لونشتين، مؤلف كتاب “بنك أمريكا”، وهو كتاب جديد حول الاحتياطي الفيدرالي، بأن شرعيته السياسية في أضعف حالاتها منذ عقود. ويقول: “إذا فشل الاحتياطي الفيدرالي في التدخل بفاعلية لإنقاذ النظام – كما كانت الحال في الثلاثينيات – بإمكانك فهم السبب في أن يكون الاحتياطي الفيدرالي غير شعبي. لكن في الواقع، الاحتياطي الفيدرالي لا يتمتع بشعبية اليوم لأنه تدخل بقوة”.

في منطقة اليورو، عملت تركيبة البنك المركزي الأوروبي على جعله عرضة لهجمة انتقادات من السياسيين والمتظاهرين الذين يتهمونه بأنه غير ديمقراطي وغير خاضع للمساءلة في تعامله مع أزمة الديون السيادية. في نيسان (أبريل) الماضي، ألقت طالبة تبلغ من العمر 21 عاما تحمل لقب جوزفين ويت، قصاصات من الورق على ماريو دراجي، رئيس البنك المركزي الأوروبي، خلال احتجاج على تعامله مع الأزمة اليونانية. ويصر دراجي على أن القواعد، وليس السياسة، هي التي أملت النهج الذي اتبعه تجاه اليونان والدول الأخرى الأعضاء.

وشجبت المؤسستان الاقتصادية والسياسية الألمانيتان، بما في ذلك المستشارة أنجيلا ميركل، بعض سياسات البنك المركزي الأوروبي، ولا سيما عندما شملت شراء سندات الحكومات الأخرى – مثل برنامج التسهيل الكمي البالغة قيمته 1.1 تريليون يورو. وعمل ظهور الأحزاب الشعبوية، بدءا من حركة “فايف ستار” في إيطاليا إلى حزب سيريزا في اليونان، أيضا على زيادة الانتقادات الموجهة للبنك المركزي الأوروبي.

آراء الطليعة

في بريطانيا وقع الاستقلال العزيز لبنك إنجلترا تحت الضغط خلال الانتخابات الأخيرة لاختيار زعيم لحزب العمال. ويدعو جيرمي كوربين، الذي فاز برئاسة الحزب، إلى إرغام البنك المركزي على تمويل البنية التحتية للحكومة – وهي سياسة تدعى “التسهيل الكمي الشعبي”. ومنذ ذلك الحين، وجون ماكدونيل، وزير المالية في حكومة الظل، يشير إلى أن استقلال البنك المركزي أمر “مقدس”. مع ذلك، جمع ماكدونيل مجموعة من المختصين، بقيادة داني بلانتشفلور، المسؤول سابقا عن تحديد أسعار الفائدة في بنك إنجلترا، من أجل إعادة النظر في ولاية لجنة السياسة النقدية التي تستهدف أساسا التضخم. يقول: “الاستقلال أمر جيد، لكن من غير الواضح ما إذا كان أداء اللجنة، منذ عام 2005، أفضل من أداء وزارة المالية. هل من الممكن أن وجود صلاحيات مختلفة (لبنك إنجلترا) عمل على جعل الأمور مختلفة منذ الأزمة. هذا ليس سؤالا غير معقول”.

في الأسبوع الماضي، عرض ستانلي فيشر، نائب رئيس الاحتياطي الفيدرالي، دفاعه الأكثر تفصيلا حول استقلالية السياسات النقدية منذ انضمامه للبنك المركزي، محذرا من أن القيود الجديدة من السياسيين قد تكون خطيرة عندما يكون التضخم هادئا. واعترف بأن الحوار حول الاستقلال يجري تعقيده بسبب أهداف الاستقرار المالي الجديدة التي تأتي إلى جانب استهداف التضخم، ومن الممكن أن يكون من الملائم وجود مشاركة سياسية في قضايا الاستقرار، مثل الطفرات في قطاع الممتلكات.

التحدي التشريعي الذي يسبب القلق الأكبر لمسؤولي الاحتياطي الفيدرالي هو المشروع المدعوم من قبل إليزابيث وارين، عضوة مجلس الشيوخ عن الحزب الديمقراطي، وديفيد فيتر، نظيرها الجمهوري، المتمثل في الحد أكثر من قدرة البنك على منح قروض طارئة خلال أزمة ما وإيقاف “عمليات الإنقاذ المستترة” للبنوك الآخذة في التعثر.

ويميز سايمون جونسون، الأستاذ في كلية الإدارة في معهد ماساتشيوستس للتكنولوجيا، بين المحاولات الرامية إلى كبح جماح السلطة التقديرية للبنك حول السياسات النقدية، وبين الإصلاحات المحتملة في عملياته المتعلقة بالاستقرار المالي. ويقول إن المحاولات التي قام بها بعض الجمهوريين من أجل “قصقصة أجنحة الاحتياطي الفيدرالي فيما يتعلق بالسياسة النقدية” كانت فكرة سيئة. مع ذلك، كانت الأمور مختلفة في جانب الإقراض الطارئ، حيث يجادل بأن القواعد الخاصة بالاحتياطي الفيدرالي حول التدخلات يعوزها الوضوح اللازم.

في العام الماضي، سعى بنك إنجلترا الذي تعرض لهجوم بسبب تعامله مع الأزمة، إلى تطهير سمعته بأنه يجنح إلى السرية. وتم الترحيب على نطاق واسع بالإجراءات، التي تشمل نشر المحاضر الخاصة باجتماعات لجنة السياسات النقدية، جنبا إلى جنب مع القرارات، بدلا من نشرها بعد مضي أسبوعين. لكن النقاد يخشون من أن تلك الخطط لم تكن قوية بما فيه الكفاية، لأنها تقيد الدور الذي يمكن أن يلعبه مراجعو الحسابات الرسميين في تفحص فاعلية العمليات التي ينفذها بنك إنجلترا، مثلا.

الروابط مع الصناعة

المجال الآخر الذي تواجه فيه البنوك المركزية الضغط لعرض قدر أكبر من الشفافية هو المتعلق بروابطها وعلاقاتها مع الصناعة المالية. تعرض بنك إنجلترا للانتقاد بسبب سماحه لجيرتيان فليجه، المختص الجديد بوضع أسعار الفائدة، بالاحتفاظ بحصة سلبية لدى رب عمله السابق، بريفان هوارد، وهو صندوق تحوط يراهن على اتجاه أسعار الفائدة. وقطع فليجه منذ ذلك الحين علاقاته مع بريفان، لكن المشرعين طلبوا من بنك إنجلترا إعادة النظر في مدونة قواعد السلوك في البنك.

ويواجه المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي تدقيقا بعد أن أعطى أحد الأعضاء، بينوا كور، تفاصيل لخطط من أجل تنفيذ بعض عمليات شراء السندات في لقاء خاص مع مجموعة من مديري صناديق التحوط والمصرفيين والأكاديميين. وبسبب ما سماه البنك المركزي الأوروبي “خطأ إجرائيا داخليا”، لم تظهر التصريحات على الموقع الإلكتروني حتى صباح اليوم التالي لحديث كور. وحدد البنك المركزي الأوروبي منذ ذلك الحين مبادئ توجيهية تمنع أعضاء المجلس من الإدلاء بتصريحات حساسة المناسبات المختلفة، ما لم تكن تلك البيانات متاحة فورا للجمهور.

وأظهرت يوميات مجلس إدارة البنك ـ التي كشفت تفاصيلها “فاينانشيال تايمز” الأسبوع الماضي عقب طلب خاص بحرية المعلومات ـ أن عددا من الأعضاء كانوا قد اجتمعوا بمصرفيين ومديري أصول قبل أيام – وفي بعض الحالات قبل ساعات – من إصدار القرارات الرئيسية المتعلقة بالسياسات. ويقول البنك المركزي الأوروبي إنه سيبدأ نشر يوميات أعضاء المجلس التنفيذي بفارق زمني يبلغ ثلاثة أشهر.

ويرى النقاد أن توسيع القواعد المتعلقة بالمساءلة يمكن أن يقطع شوطا طويلا في ضمان أن الجمهور لا يزال يثق بالبنوك المركزية حتى في الوقت الذي تضطلع فيه بصلاحيات جديدة. ويتعرض محافظو البنوك المركزية بالفعل لتمحيص سياسي واسع – مثلا، في جلسات الاستماع البرلمانية – لكن هذا ربما يحتاج إلى أن يتم توسيعه أكثر.

تقول روزا لاسترا، أستاذة القانون النقدي في جامعة كوين ماري في لندن: “أصبحت البنوك المركزية قوية بشكل فائق، وإذا كانت السلطة مفسدة، فإن السلطة المطلقة تفسد بالتأكيد. نحن بحاجة إلى أن نكون أكثر إبداعا في تصميم المساءلة”.

الإجابة قد تكمن في مسؤولي البنوك المركزية أنفسهم، الذين يحتاجون إلى الترفع عن المشاجرات السياسية من أجل تجنب الشكاوى المتعلقة بتجاوز صلاحياتهم. يقول السير بول تكر، نائب محافظ بنك إنجلترا السابق: “البنوك المركزية ينبغي أن تكون أمورها جيدة، شريطة أن تستطيع فعلا تفسير كل شيء تفعله من حيث الاستقرار، والاستقرار، والاستقرار. إذا كان بإمكانهم فعل ذلك، سيقل احتمال أن يفكر الجمهور خطأ أنهم وكالات ذات قوة قادرة على حل جميع التحديات الاقتصادية”.

تقول لوكريزيا ريشلين، أستاذة الاقتصاد في كلية لندن للأعمال والمسؤولة السابقة لدى البنك المركزي الأوروبي: “هناك خطر حين يتحدث مسؤولو البنوك المركزية أكثر مما يجب”. وتضيف: “ينبغي أن تكون حذرا عند الحديث عما هو أبعد من السياسة، إذا أردت الاحتفاظ بالاستقلال”.