وقف لبنان مذهولاً أمام الحصيلة الدموية الباهظة للتفجيرين الانتحاريين اللذين ضربا منطقة برج البراجنة مساء أمس الخميس واضعين البلاد في مواجهة موجة ارهابية اجرامية بدت بصمات “داعش” واضحة عليها، مما استدعى استنفاراً واسعاً سياسياً وأمنياً وعسكرياً. وفيما كان المشهد الداخلي يستكين الى رؤية مجلس النواب في انعقاد “نادر” للمرة الاولى منذ سنة تماما في اليوم الاول من الجلسة التشريعية، سدد تنظيم “داعش” هجمته الاجرامية الارهابية على الآمنين في حي مكتظ بعد صلاة الغروب عبر نمط “متطور” في الاجرام استعان فيه بمجموعة من ثلاثة انتحاريين فجروا أحزمة ناسفة في ساعة الذروة فأوقعوا أكبر حصيلة دموية من الشهداء والجرحى لم ترس حتى ساعات الليل المتقدمة على رقم نهائي، لكن آخر حصيلة شبه نهائية اعلنتها وزارة الصحة ليلا أفادت ان عدد الشهداء بلغ 43، وعدد الجرحى 239.
وشكّل دخول “داعش” على خط معاودة الهجمات الارهابية في قلب الضاحية الجنوبية والعمق اللبناني بعدما سارع التنظيم الى اعلان تبنيه التفجير المزدوج في برج البراجنة عاملاً طارئاً يتسم بخطورة شديدة، فيما بدا واضحاً ان التفجير الذي يعتبر الاضخم في سلسلة العمليات التفجيرية الارهابية التي استهدفت لبنان لم يكن متصلاً فقط بالنمط الاجرامي لـ”داعش ” وانما “ركبت” للتفجير أيضاً ساعة توقيت سياسية من خلال تزامن التفجير مع استعادة المشهد السياسي الداخلي حداً معقولاً من التماسك ترجمته التسوية السياسية التي اثمرت انعقاد الجلسة التشريعية لمجلس النواب. وأثار التفجير المزدوج بحصيلته الضخمة المفجعة مخاوف من تجدد الموجة الارهابية وخصوصاً في ظل مؤشرات سبقته كان من أبرزها الشريط الذي نشره “داعش” قبل أيام مهدداً فيه مجموعة شخصيات سنية سياسية ودينية لبنانية، وقت تكثفت عمليات مخابرات الجيش والاجهزة الامنية وتمكنت من توقيف عدد من الرؤوس الارهابية المنخرطة في خلايا لـ”داعش”.
وللمرة الاولى منذ سنة ونصف سنة وتحديداً منذ 23 حزيران 2014 تاريخ التفجير الاخير في الضاحية الجنوبية، ضرب “داعش” ضربته امام حسينية برج البراجنة على دفعتين، اذ تولى انتحاري أول تفجير نفسه بحزام ناسف، وبعد أقل من خمس دقائق حذا حذوه انتحاري ثان، فيما عثر على انتحاري ثالث مقتولاً بفعل احد التفجيرين قبل ان يتمكن من تفجير نفسه. وبعد ساعات قليلة من التفجيرين، نشر تنظيم “داعش” في مواقع التواصل الاجتماعي صورة من مكان العملية وبياناً تبنى فيه التفجيرين.
وذكرت صحيفة “الأخبار” من مصادر مرتبطة بـ”داعش”، أنه سيصدر تبنّيًا لعملية برج البراجنة قريباً على شكل تسجيلٍ صوتي.
من جهتها، ذكرت صحيفة “الجمهورية”، ان تدابير امنية استثنائية اتخذتها وحدات الجيش والأجهزة الأمنية على مداخل الضاحية الجنوبية بعد التفجير المزدوج.
وإلى ذلك عمّم الحزب رسائل قصيرة على كوادره جاء في إحداها: “نطلب من المواطنين عدم التجمّع، خصوصاً في المقاهي، وأي شخص يحدث ريبةً لا تتهاونوا معه، فهناك معلومات عن وجود عدد من الانتحاريين، ونطلب عدم الركض امام الاخوة اثناء توقيفهم لهؤلاء تحت طائلة المسؤولية”.
واشارت صحيفة “السفير” الى أن التحقيقات الأمنية والقضائية في تفجيري برج البراجنة فتتمحور حول الآتي:
أولا، كيف تمكن الانتحاريان من الوصول الى الضاحية، وهذا الأمر يتطلب مراجعة عدد كبير من الكاميرات، خصوصا وأن وجهي الانتحاريين الأول والثاني ظلا مكتملين..
ثانيا، هوية الانتحاريين، وهو الأمر الذي يمكن أن تساعد في كشفه محاولة التعرف عليهما من خلال صورتيهما، خصوصا اذا كانا يحملان جنسية لبنانية أو سورية أو فلسطينية.
ثالثا، يجري التدقيق في أرشيف التحقيقات لدى كل الأجهزة الأمنية حول اسماء شبكات معينة، وخصوصا تلك التي تم تجنيدها في بعض مخيمات العاصمة وتجمعات النازحين السوريين.
رابعا، يساعد عدم انفجار الحزام الناسف مع أحد الانتحاريين والذي كان مدعما بأكياس من النايلون المقوى وهي تحتوي مئات الكرات الحديدية، في محاولة اجراء مقارنات مع تفجيرات أخرى ومع أحزمة تم العثور عليها، وخصوصا مع أحد الموقوفين في الشمال (من آل الأحدب) اذ انه كان اعترف بتفصيل واعداد 15 حزاما ناسفا بتكليف من اسامة منصور وشادي المولوي.
خامسا، المقارنة بين الحزام الناسف الذي لم ينفجر والحزام الناسف الذي عثر عليه فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، فجر أمس، مع أحد عناصر “داعش” ويدعى (ب. ج) في محلة القبة بطرابلس، والذي قدرت زنته بنحو خمسة كيلوغرامات من المواد الشديدة الانفجار، مع أرجحية عدم التطابق، لأن التقديرات تشير الى أن حزامي برج البراجنة تقدر زنة عبوة كل منهما بما لا يقل عن سبعة كيلوغرامات.
سادسا، ثمة محاولة للمقارنة بين أكياس الكرات الحديدية التي عثر عليها مع الحزام الذي لم ينفجر، وبين تلك التي تم العثور عليها في بعض الأماكن، ومنها المستودع الذي داهمه الأمن العام في صيدا وكان يخص الشيخ الموقوف أحمد الأسير.
سابعا، القنابل اليدوية يكون لها عادة رقمها التسلسلي و”كود” محدد، ولذلك، تجري مقارنة القنبلة اليدوية التي انفجرت وتلك التي لم تنفجر بقنابل أخرى لم تنفجر أو صودرت، فضلا عن محاولة الاستفادة من دول المصدر عن الجهة التي اشترت هذه القنابل.
ثامنا، ثمة نقطة يتوقف عندها المحققون وهي استخدام انتحاريين في عملية واحدة، بينما كان يمكن أن يقوم كل واحد بتفجير نفسه، في فترات زمنية متباعدة وفي أمكنة مختلفة، وهذه النقطة، تؤشر الى نقطة يجري نقاشها على مستوى الدوائر الأمنية في لبنان، وتتمثل بتفكك المجموعات الارهابية، بحيث لا يمر يوم دون القاء القبض على واحد أو اثنين، فضلا عن كشف بنية مجموعات كاملة خصوصا في الشمال وعين الحلوة.
واذا صحت الفرضية الأخيرة، فان هذه العملية ربما تحمل في طياتها اشارة الى ما يسميه المحققون “دومينو” تداعي الشبكات الارهابية، بحيث قررت أن تضرب مرة واحدة ومن دون تتابع، ولو أنها نجحت في اختيار الهدف (منطقة مكتظة بالسكان).
تاسعا، التدقيق في البيانات التي أصدرها تنظيم “داعش” حيث تبين بصورة أولية أن البيان الأول الذي تبنى العملية وأعلن عن أسماء المنفذين الثلاثة (فلسطينيان وسوري) غير دقيق وأن البيان الثاني الذي اكتفى بتبني العملية وبأن منفذيها اثنان، هو الأدق.
عاشرا، استدعاء عدد من الموقوفين في أعمال إرهابية من أجل محاولة ربط خيوط بين المجموعات والتفجيرات وصولا الى التعرف على هوية الانتحاريين، بالتزامن مع تفعيل شبكة الاستعلام على مستوى كل الأجهزة الأمنية في الوجهة نفسها.
ودانت الولايات المتحدة بشدة هجوم الإرهابي في برج البراجنة، لافتة الى ان أحداث اليوم تذكير مقلق للتحديات الهائلة التي لا يزال يواجهها لبنان. فالإرهاب، كهجمات اليوم، يسعى لتقويض الحرية والأمن الّلذين عمل شعب لبنان بجهد لتحقيقهما.
وأضافت: “ندعم السلطات اللبنانية دعماً كاملاً فيما تجري تحقيقاتها حول هذا العمل الإرهابي. تؤكد الولايات المتحدة مجدداً التزامها أمن لبنان، وستستمر بالوقوف الى جانب الشعب اللبناني في مواجهة الإرهاب”.
كما دانت وزارة الخارجية التركية التفجير، وقال: “نؤمن بتضامن اللبنانيين من أجل وحدة لبنان”.
ولفتت صحيفة “اللواء” الى ان الاتصالات التضامنية مع لبنان انهالت عندما سماع، سواء عبر الاتصالات المباشرة أو البرقيات أو البيانات، فأعرب الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند عن صدمته وسخطه، معلناً أن بلاده ملتزمة باستقرار لبنان ووحدته وسلامه، فيما أكد أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، في برقية للرئيس سلام إدانة بلاده الشديدة لهذا العمل الارهابي ورفضها للإرهاب بكافة أشكاله.
كما تلقى سلام برقية مماثلة من ولي العهد الشيخ نواف الأحمد الجابر الصباح، وبرقية أخرى من نظيره الكويتي جابر المبارك الأحمد الصباح.
بدوره تلقى الرئيس نبيه برّي إتصالاً هاتفياً من الرئيس سعد الحريري معزياً ومستنكراً تفجيري برج البراجنة، واتصالاً من الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي اتصل أيضاً بسلام، يُعرب فيه عن وقوف الشعب الفلسطيني مع وحدة وسلامة لبنان وشعبه، واستنكاره لأي محاولات لخلق الفتنة.
وقالت المنسقة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في لبنان سيغريد كاغ أن المجتمع الدولي يقف إلى جانب لبنان.
ودانت السفارة الأميركية في بيروت ما وصفته بـ”الإعتداء الشنيع” في برج البراجنة.
ودعا شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب القيادات اللبنانية لتغليب صوت العقل والنأي بلبنان عن الانجرار إلى أتون الصراعات الإقليمية، مدينا الانفجارين في الضاحية.