كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
قبل فترة، سأل أحد الصحافيين نائباً مسيحياً بارزاً، في حزب مسيحي فاعل، عن الأرباح والخسائر في تطبيق قانون استعادة الجنسية، فأجابه: «أفضِّل عدم التطرّق إلى هذا الموضوع. فأنا لا أعرف، حتى اليوم، إذا كان القانون سيصبُّ في مصلحة المسيحيين أم لا».عندما رفع العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع إشارة النصر في معركة إستعادة الجنسية وقانون الانتخاب، طرَح البعض أسئلة حول ما إذا المسيحيون سلكوا الطريق فعلاً نحو استعادة التوازن في الديموغرافيا (الجنسية) وفي النظام (الانتخاب)، أم إنّ كلّ ما في الأمر هو أنّ الشركاء الشيعة والسنّة مرّروا الأزمة «بالتي هي أحسن».
عملياً، سيكون قانونُ الانتخاب موضع نقاش واسع بين كلّ القوى السياسية قبل إقراره. وسيبقى المجلس النيابي مقفَلاً، على الأرجح، إلى أن ينضج قانون الانتخاب، وفق ما وعدَ به الرئيس سعد الحريري. لكنّ قانون الجنسية بات نافذاً، ويمكن وضعه على المشرحة والتعمّق في اكتشاف القوى الطائفية والمذهَبِيَّة والسياسية القادرة على الإفادة منه فعلاً.
وليس سرّاً أنّ آراءً عدة ظهرت، منذ أن بدأ التحرك في إطار الرابطة المارونية ثمّ المؤسسة المارونية للانتشار نحو قانون لاسترداد المغتربين جنسية آبائهم وأجدادهم، تطالب بالتأنّي في دراسة المفاعيل التي ستتأتّى عن القانون، وما إذا كانت فعلاً ستخدم المسيحيين كما يُراد لها أساساً.
فالمسيحيون يريدون من قانون استرداد الجنسية أن يشكّلَ ردّاً على مرسوم التجنيس الذي جرى تمريره في العام 1994، في غياب القوى الممثِّلة للمسيحيين. ويريدونه أن يشكِّل تعويضاً للهجرة المسيحية الكثيفة في خلال الفترة السورية في لبنان. فالعاملان أدّيا إلى تسريع وتيرة الخلل الديموغرافي الذي يتّسع طبيعياً منذ 1920، بسبب الفارق الشاسع في نسبة النموّ بين الطوائف.
وتعتبر القوى المسيحية أنّ من المفيد قيام المسيحيين بتقليص الخلل جزئياً وظرفياً عن طريق إقرار الحقوق لمستحقيها من اللبنانيين في بلاد الاغتراب. وذلك سيكون ثروة للبنان عموماً، خصوصاً على المستوى الاقتصادي، إذ سيتمكن القانون من اجتذاب طاقات اغترابية هائلة يحتاج إليها لبنان.
وإذ فشل المسيحيون في الحصول على نتائج عملية من الطعن في مرسوم 1994، ولم تُسحب الجنسية إلّا من أعداد قليلة من الذين حصلوا عليها عن طريق التزوير، فقد وجدوا أنّ الأجدى هو الاتجاه نحو إقرار قانون استعادة الجنسية.
ولكن، في التعمُّق، يجدرُ التوقف عند معطياتٍ مهمَّة في هذا القانون:
1- هل الماكينة المسيحية، الحزبية والروحية خصوصاً، ستكون مهيّأة لاجتذاب المغتربين الذين يستحقّون الجنسية ويطالبون بها، والذين تُقدّر أعدادهم مع أبنائهم بنحو 300 ألف نسمة، غالبيتهم من المسيحيين؟ أم إنّ حراكَ الماكينات الأخرى كماكينة «حزب الله»- «أمل» التي تمتلك النفوذ والسلطة في لبنان والقدرات المالية والتنظيم والانسجام، ستكون أقوى في بلدان الاغتراب، كالقارتين الأفريقية والأميركية؟
ففي هذا المجال، يجدرُ التوقف عند المستوى المتدنّي للإقبال الإغترابي على أقلام الاقتراع في السفارات. فهو لم يتجاوز في الانتخابات النيابية الأخيرة، في «قارات إغترابية» كأوستراليا وكندا، بضعة أفراد. وصحيحٌ أنّ هناك عراقيل واضحة أدّت إلى تعثّر هذه العملية، لكنها تصلح لطرح التساؤلات.
وهناك انطباعٌ في العديد من الأوساط بأنّ المسيحيين المنخرطين منذ عشرات السنين في مجتمعات أميركية وأوروبية هم أقلّ ارتباطاً بلبنان من سواهم، خصوصاً أنّ «هذا اللبنان» الذي لم يعد يذكِّرهم بـ»لبنانهم»!
2- يعتقد كثيرون أنّ القطبين الشيعي والسنّي أرادا تمرير «القطوع المسيحي»، من دون خسارة شيء يُذكر، تسهيلاً لجلسة مطلوبة دولياً، لضرورات مالية حيويّة. وعلى العكس، سيستفيد الشيعة من تجنيس «مغتربيهم». وإضافة إلى ذلك، ربما يكون «تحت الطاولة» ما سيظهر لاحقاً.
أما القوى السنّية فستكون أكثر تمسكاً بإقرار القانون الذي يمنح الجنسية لأولاد المرأة اللبنانية المتزوِّجة من أجنبي، إنطلاقاً من اعتبار هذا حقّاً إنسانياً ووطنياً على غرار تمسّك المسيحيين بحقٍّ وطنيّ وإنسانيّ آخر، هو استرداد جنسية الأجداد. وعلى الأرجح، ستتلقى الجمعيات والهيئات المدنية والحقوقية المنادية بإقرار هذا الحقّ، دعماً استثنائياً في المرحلة اللاحقة.
ومعلومٌ أنّ منحَ الجنسية لأولاد اللبنانية المتزوِّجة من أجنبي سيؤدي إلى زيادة ملحوظة في أعداد السنّة خصوصاً، لا سواهم، لأنّ غالبية الزيجات الحاصلة في لبنان بين لبنانيات وأجانب لا تشمل لا الجنسيات الفرنسية ولا الألمانية، بل السورية والفلسطينية والمصرية. ووفقاً للتقديرات الأخيرة، سيؤدي إقرار هذا القانون إلى تجنيس نحو 380 ألفاً، بينهم قرابة 84 ألف فلسطيني.
وإذ يتبنّى تيار «المستقبل» قضية إقرار هذا الحقّ، وهو طالب من خلال النائب سمير الجسر، بإدراجه في صلب قانون استرداد الجنسية، فإنّ التيار تراجع مرحَلياً لتسهيل التسوية، ولكنّ مصادره تؤكد العودة إليه لاحقاً.
وفي أيّ حال، سيكون هناك رهان على ما سيأتي به قانون الانتخاب العتيد، عندما تنضج الظروف لإنتاجه، ولاسيما لجهة تقسيم الدوائر واختيار النظام بين نسبي وأكثري وإمكان الاستجابة إلى مطالبة بعض القوى المسلمة بخفض سنّ الاقتراع من 21 عاماً إلى 18 عاماً.
في الخلاصة، يمكن القول إنّ الخطوة التي نفّذها «ثنائي» «التيار»- «القوات» تشكّل نموذجاً يمكن اعتماده لمتابعة حقوق المسيحيين وتصحيح الخلل. وهذا الأمر يمنح ورقة «إعلان النيّات» رصيداً.
وتُظهِر التجربة أنّ القوى المسيحية قادرة على تحقيق التقدم، عندما تتَّحد ولا تتراجع في اللحظات الأخيرة، كما فعلت سابقاً في ملفات كقانون الانتخاب أو التمديد للمجلس وسوى ذلك. وفي هذا المعنى، يمكن التحدث عن انتصار مسيحي… على الذات أولاً!
ولكن، يبقى القول بتحقيق انتصار على مستوى الحقوق في ملف استعادة الجنسية أمراً يحتاج إلى الترقب وانتظار التطبيق ومستتبعاته الواقعية. كما أنّ الحقوق في قانون الانتخاب مرهونة بمحتواه وإمكانات إقراره.
أما الانتصار الأقوى، على الذات أيضاً، فيقتضي الاتفاق على رئيس للجمهورية والذهاب إلى انتخابه واستعادة الميثاقية في رأس الهرم لا في قاعدته. وهذا الانتخاب لا يحتاج إلى أيّ عنصر آخر، لا إقليمي ولا داخلي، إذا توافق عليه المسيحيون وفرض نفسه على الجميع.
بين عون وجعجع، بداية مسار يمكن أن يقود إلى إحقاق الحقوق المسيحية. فمعظم هذه الحقوق ضاع أساساً في المرحلة التي ظهر فيها الصراع بينهما، من 1988 وحتى اليوم.
ولكنّ استكمالَ المسار يقتضي مزيداً من الصمود والصدقية في النيّات والاستعداد للتنازل الشخصي… بدءاً من انتخاب رئيس للجمهورية. فماذا تنفع المعارك حول التفاصيل، إذا كان المسيحيون قادرين على استعادة رئاسة الجمهورية من دون معركة، بل بمجرد التفاهم على مرشح؟
إزاءَ كلّ ذلك، ثمة مَن يشعر بالخجل من ممارسة السياسة في بلد ينقاد إلى وضعية التكتلات الطائفية والمذهبَيِة في سحر ساحر، ويسأل: فيما الشرق الأوسط ملتهب، مَن يقف وراء الحقن الطائفي والمذهبي، وكيف تدور الأشياء دورتها الكاملة لتعود إلى مربّعها الأول، مربّع الحرب الأهلية التي تندلع فجأة، عسكرية أو سياسية- كما اندلعت في الأيام الأخيرة- ولا مجال فيها للانتصارات ولا الهزائم؟