يوسف الحاج حسن
يبدو لبنان عاجزاً عن الخروج من عنق الزجاجة، في السياسة كما في الاقتصاد، أجهزة الرقابة تبدو مشلولة أو متوارية عن النظر ومجمدة من العمل، بينما معهد البحوث الصناعية مستمر في عمله اليومي، السؤال لماذا؟ هل يمارس المعهد دوره الرقابي؟ لماذا تغيب الرقابة عن الممارسات الاقتصادية؟ هل الرقابة ضرورية في بلد صغير كلبنان؟ وهل يمكن أن نصل إلى مرحلة يصبح فيها تطبيق القانون تربية مدنية حقيقية لدى المواطن والمسؤول؟
تجربة معهد البحوث الصناعية وعلاقته مع المؤسسات الصناعية والتجارية نموذج للأسئلة الآنفة الذكر، وربما تختصر الأجوبة المتعلقة بالمعهد جزءاً مهماً من الأسئلة والأجوبة المتعلقة في النموذج الاقتصادي والسياسي اللبناني.
عندما قرر الرئيس الشهيد رفيق الحريري أن ينتقل معهد البحوث الصناعية إلى مجمع الجامعة اللبنانية في الحدث، لم يدر في خلده أن يكون المعهد مركز بحث نظري فقط كالجامعة، لكن الصورة العامة النمطية في لبنان هي انفصال العلم عن الواقع، وأن يتحرك الصناعيون، كما التجار، بحرية تامة من دون حسيب أو رقيب. جاء هذا التصور على أساس شعار الاقتصاد اللبناني الرئيسي: «حرية التجارة»، وعندما يقع التماس بين العلم والحرية تبدأ المشاكل. يتصور التجار، كما الصناعيون، أن مفهوم الحرية هو أنه لا أحد يحق له الرقابة عليهم، ولو خالف بعضهم القانون الذي أعطي المعهد سلطة القرار لتنظيم نوعية الواردات دون كميتها، ومطابقتها مع المقاييس العلمية المقررة من قبل مؤسسات عالمية عديدة تتشارك والمعهد في وضعها، كما التعاون والإشراف على تطبيقها، لكن مشكلة المعهد بمواجهة أساطين الصناعة وتجار المستوردات تبدأ عندما يمارسون «الشطارة» بمخالفة المقاييس والتحايل على القانون تحت عنوان الحرية.
تقول مصادر متابعة لتجرية معهد البحوث الصناعية، إنها الأولى في لبنان في وضع المقاييس ومحاولة إلزام التجار بها في مجال الاستيراد، وهي بالمجمل في طور التجربة، فالمعهد لم يصل إلى نهاية الشوط، وهو في مرحلة «الالتزام الاختياري من قبل التجار»، وتفتقر القوانين المرعية الإجراء إلى الكثير من النصوص التي ترعى التجربة وتنظم العلاقات البينية وتعاقب المخالفين، وتجري التجارة من دون تراخيص مسبقة، ولا يوجد ترابط بين الخطط الرسمية والدراسات المتخصصة والتفصيلية، ولا يوجد إشراف من الوزارات المعنية وسلطات الرقابة العديدة حيث تتوزع الصلاحيات، وتبقى العلاقات البينية مع الإدارات وبين الوزارات المختلفة غير واضحة… الخلل هنا، لماذا يستمر ويتضخم من دون معالجة قانونية أو إجرائية، وبالتالي يصبح منطقياً طرح السؤال الآتي: «كيف تستمر هذه المعادلة الظالمة للمصالح الوطنية، إذ تُرسم السياسات الاقتصادية من قبل وزراء وأصحاب مصالح، ثم يتم التملص منها خلال التطبيق؟ وإلى متى يستمر هذا النمط قبل أن نضطر كلبنانيين جميعاً لتحمل التبعات عن أخطاء ممارساتهم الأنانية، إذ إن الكلفة يتحملها الوطن والمواطن بعد أن ينفد المسيء بفعلته؟
توضح المصادر أن «السياسات الاقتصادية في لبنان تُرسم على قياس المصالح الضيقة لفئة أو تحالف يسيطر على مجال اقتصادي حيوي، وتتم حمايته بالسياسة ومواقع السلطة المختلفة في لبنان. من هنا، يصبح من الصعب التطوير قبل الحديث عن المراقبة والمحاسبة من قبل المعهد أو غيره، في مجال عمله كمختلف أجهزة الرقابة أو التخطيط اللبنانية. هذا التفلت، تتابع المصادر، تنقسم مخاطره على مستويين اثنين: الاستيراد غير المدروس والممنهج، وبالتالي المضر للسوق الداخلية، ومحاولة إغراق الأسواق اللبنانية ببضائع مخالفة للمقاييس. هذه الممارسات، على الرغم من مخالفتها لمصالح اللبنانيين وعامل الجودة المطلوب، تستمر حتى يستسلم اللبنانيون ويسلّموا باستحالة إصلاح الوضع والقبول بالأمر الواقع ويرضوا باستهلاك البضائع المؤذية لمصالحهم، ولو على حساب ديمومة الصناعة اللبنانية وجودتها.
المستوى الثاني من المخاطر يتعلق بالحفاظ على واقع الصناعة غير المؤهل اليوم، ذلك أن قوانين الأسواق تقوم على مبدأ «البقاء للأقوى»، المستهلك بات يثق بالبضائع المستوردة نتيجة تدني الثقة بالبضائع المنتجة محلياً، لمخالفتها المعايير العالمية والمقاييس المطلوبة لدخول أسواق الجوار والعالم. وإذا أضفنا كلفة الإنتاج المرتفعة وغياب الموارد الطبيعية، يمكن استقراء وجهة الصناعة في لبنان ومستقبلها، وكل هذا ينبع، بحسب المصادر، من موقع واحد هو «مزاجية المنتج اللبناني وتداخل حدود الصناعة بالتجارة وعدم تفريق الاقتصاديين المحليين بين صفة التاجر والمصنّع، على الرغم من أن دور كل منهما يختلف ولكنه يتكامل مع الآخر، وبالطبع غياب الرقابة الذاتية السابقة واللاحقة في عمليات الإنتاج، وكل هذا تحت عنوان حرية التجارة».
تتساءل المصادر عن المستقبل، حيث الصناعيون كما التجار في لبنان لا ينظرون إلى المستقبل إلا بحدود المصلحة الفردية الضيقة، ويكتفي اللبنانيون بالنواح على التراجع في مجال التوريد والاستثمار في الصناعة والمنافسة غير العادلة مع الدول الأخرى التي تغلق الباب أمام منتجاتنا، فيما البوابة اللبنانية مفتوحة على مصراعيها في الاستيراد، وتلاحظ المصادر أن «مستقبل الصناعة ليس ملك أحد في لبنان، بل هو ملك عموم اللبنانيين اليوم وغداً لأولادهم وأحفادهم»، والحفاظ على الصناعة يكمن أساساً في مواجهة الواقع، على الرغم من كل الأمراض التي يعبق بها، وأبرزها جنوح البعض للمزيد من الأنانية خلال عملهم والتضحية في كثير من الأحيان بالمستقبل لصالح صفقة واحدة اليوم، والأمثلة عديدة في محالات الصناعة كافة والاستيراد غير المدروس، وكل ذلك يحصل وسط مخالفة واضحة للقوانين وتحدّ جلي للتخطيط والرؤى وكل أوراق الدراسات والأبحاث. تدعو المصادر الى مراجعة شاملة للواقع بغية تطويره بما ينسجم مع حاجات الغد، حتى لا نصبح كالحطّاب الذي قطع أشجار الغابة من دون زراعة البديل، ولأنه كسول قطع الأشجار الصغيرة بدلاً من انتظارها لتكبر، وخلال سنوات زالت الغابة.
المستقبل ليس وردياً، وليس بالضروة سوداوياً إن عرفنا كيف نُخرِج السياسة من الممارسات الخاطئة. القانون ليس للعقاب فقط، بل للردع والحماية، ردع المخالفين للقانون، أولاً.