ليس المشهد في لبنان وردياً ولا حتى ضبابياً. الأزمات تتوالى ووطأتها تزيد فيما يجنح تفاعلنا معها نحو تقبّلها والتأقلم مع تداعياتها. حتى ان توصيفنا لحالة التأقلم مفعم بـ«إيجابية» لا مصدر حقيقياً لها. فالمؤشرات التي يمكن رصدها تنطوي على كثير من السلبية سواء كانت مؤشرات نقدية أو مالية واقتصادية. ومن أبرز هذه المؤشرات هي تلك الصادرة عن مصرف لبنان، والتي تشير إلى عجز في ميزان المدفوعات في نهاية أيلول 2015 بقيمة 1.77 مليار دولار.
هذا يعني أن حصيلة تبادلنا مع الخارج من تدفقات نقدية وسلع وخدمات جاءت سلبية للسنة الثانية على التوالي (1.4 مليار دولار في نهاية 2014) وبات يتحتم علينا البحث عن طريقة لتغطيتها قبل أن تتراكم. وبالتزامن مع هذا الأمر كانت العملات الأجنبية التي يحملها مصرف لبنان تتذبذب طيلة هذه السنة. فهي كانت 32.4 مليار دولار في نهاية 2014، وارتفعت إلى 34.5 مليار دولار في منتصف 2015 لتنخفض إلى 32 مليار دولار في نهاية أيلول 2015.
أما بالنسبة لأداء الدولة، فهو أسوأ من ذي قبل. مرّت أكثر من 10 سنوات بلا موازنة، فيما أصبحت المؤسسات أسيرة عمليات التعطيل في ظل ارتفاع عجز المالية العامة، وارتفاع كلفة خدمة الدين وارتفاع الإنفاق التشغيلي وتراجع الإنفاق الاستثماري إلى حدوده الدنيا وبات يمثّل أقلّ من 8% من الإنفاق الإجمالي.
وليست حال الاقتصاد أفضل. فالاستهلاك في مستويات متدنية والتوظيف أصبح شحيحاً فيما زادت معدلات الصرف من العمل. بل بدأت مظاهرالتعثّر تصبح أكبر وأكثر تعقيداً، إذ زادت نسبة الديون المتعثّرة إلى أكثر من 5% من مجمل التسليفات المصرفية، وباتت الديون غير المسجّلة في السوق، أي الديون المتداولة بين الشركات خارج الإطار المصرفي والتي تقدّر بنحو 6 مليارات دولار، محكومة بالتعثّر أيضاً. وهناك قطاعات بدأت تستنفذ سيولتها، وخصوصاً السياحة والعقارات. أما التصدير برّاً، فقد توقف بصورة كاملة واستعيض عنه بخطوط بحرية…
تأتي كل هذه المؤشرات في ظل أوضاع سياسية وأمنية متدهورة. فالبنك الدولي قال إن «الفعالية السياسية مشلولة»، فضلاً عن «خدمات عامة منهارة، ولاجئين سوريين…». ومن الطبيعي أن تكون هذه الاوضاع ضاغطة اجتماعياً في ظل التزاحم على الموارد وعلى الخدمات العامة وعلى العمل. في ظل هذا الوضع، قالت مؤسسات التصنيف الدولية أنها عدّلت توقعاتها المستقبلية لتصنيف لبنان إلى «سلبي». وهذا يعني أن الخطوة التالية هي خفض التصنيف إلى CCC، وهو المستوى الذي يعدّ بمثابة وضع ينطوي على احتمال «التخلف عن السداد»، فإذا وصلنا إليه تصبح الأمور متدهورة أكثر سواء لجهة كلفة إضافية على الميزان الخارجي، وعلى التدفقات النقدية، وعلى الدين العام وغيرها.
رغم كل ذلك، يعتقد رئيس جمعية المصارف جوزف طربيه أن لبنان في مرحلة «صمود مريح». لا يخفي طربيه قلقه من بعض المؤشرات، وخصوصاً تلك المؤشرات السياسية التي اصبحت هذه السنة أسوأ، إلا أنه لا يعتقد ان خفض التصنيف وارد. ويشير إلى أن لقاءاته الاخيرة مع ممثلي مؤسسات التصنيف تمحورت حول المؤشرات المؤثّرة على القطاع والتي تستدعي خفض التصنيف أو رفعه. ومن أبرزها موضوع تأثير السيولة على القطاع المصرفي: «توقعات الودائع في لبنان تشير إلى نموّ بمعدل يراوح بين 6% و7% سنوياً، وهذا يعني أن التدفقات متواصلة، وبالتالي كيف يمكن لغزارة السيولة أن تتحوّل إلى عامل سلبي لخفض التصنيف. إجابة مؤسسات التصنيف الدولية جاءت في سياق الاستفسار عن مستوى تدفقات السيولة الضاغطة على المصارف… تعلم مؤسسات التصنيف كل الأوضاع في لبنان، ولكن لا يمكنها أن تتغاضى عن هذه النقطة بالتحديد».
إذاً، لماذا لا يمكن توقع خفض التصنيف؟ «لأن النظام المالي مستمرّ».
الصمود المريح واستمرارية النظام هما عنصران متوفران لدى الوزير السابق شربل نحاس، لكن نحاس لديه قراءة مختلفة عن هامش المناورة لهذا النظام. يستند نحاس إلى حساب بسيط في الموجودات الخارجية لكل النظام نسبة إلى مجمل موجوداته. يتبيّن أن الموجودات الخارجية للمصارف ولمصرف لبنان مقارنة مع الموجودات الإجمالية هي على خطّ تنازلي؛ ففي عام 2008 كانت النسبة 38.4%، ثم انخفضت إلى 35.3% في 2013 وتراجعت إلى 32.2% في 2014، واصبحت اليوم 29.7%. المسار الانحداري لهذه النسبة لا يزال يظهر مرونة النظام المالي وقدرته على المناورة إلا انه يظهر أيضاً أن الأفق ليس مفتوحاً أمام خيارات ثانية لتصحيح المسار. هذا المسار يقيس استنزاف موجوداتنا الخارجية نسبة إلى التدفقات النقدية التي تدخل إلى قاعدة الودائع لدى المصارف. فعلى الرغم من استمرار التدفقات إلى قاعدة الودائع، إلا أن مجمل الموجودات الخارجية لا يتماشى مع هذه الزيادة بل يحافظ على نوع من الاستقرار الذي يمكن قراءته بصورة سلبية.
باختصار، يعتقد نحاس، أن استمرار النظام وصموده المريح في مواجهة كل هذه العواصف ناتج عن قدرته على «الحفاظ على ما أمكن من الموجودات الخارجية اللازمة لاستمرايته، وبالتالي فإن ما يحصل على صعيد التوظيفات الداخلية أمر مختلف تماماً. ما يحصل في الداخل، هو أن التدفقات التي تدخل كودائع إلى القطاع، تذهب في اتجاهات مختلفة منها مصرف لبنان ومنها الدين العام ومنها ما يعاد توظيفه في الخارج بواسطة المصارف أو بواسطة مصرف لبنان، أو يعاد إقراضه من مصرف لبنان إلى المصارف بفوائد مدعومة (هذه النقاط تتضمن تربيح المصارف على حساب الخزينة العامة أو من موازنة مصرف لبنان سواء من خلال إصدار شهادات إيداع خاصة ببعض المصارف أو عمومية)… أهمية هذه الحلقة هي في مدى ارتباطها بالحلقة الخارجية وبالتوازن في ما بينهما».
وفي رأي نحاس، إن ما تنظر إليه مؤسسات التصنيف الدولية هي هذه الحلقة، ولا تنظر فقط إلى الأوضاع السياسية المتدهورة أو إلى أوضاع الموازنة المفقودة منذ 10 سنوات والحسابات المغيّبة.
توصيف الصمود المريح قد يعني أيضاً أنه في خضم كل هذه المشاكل والأزمات التي تعصف بلبنان وبالمنطقة، ثمة بعض التلطيفات الناتجة عن الآتي:
ــ انخفاض أسعار النفط والذي ينعكس إيجاباً على فاتورة الاستيراد وبالتالي خفض الطلب على العملات الأجنبية لتمويل الفاتورة النفطية بأكثر من 1.5 مليار دولار.
ــ لا تزال أسعار الفوائد العالمية منخفضة. وحتى مع ارتفاعها على المدى المتوسط بنحو نصف نقطة مئوية، فإن الكلفة التي ترتبها على لبنان ضئيلة جداً بسبب وجود هامش يزيد عن 3 نقاط مئوية بين الفوائد العالمية وبين الفوائد المحلية على الدولار. التأثير سيكون كبيراً على لبنان في حال ارتفعت الفوائد العالمية بسرعة وهو أمر ليس متوقع في المدى المنظور.
ــ ومن الأمور الأساسية التي تجعل الصمود مريحاً، لا بل مربحاً للمصارف وللنظام المالي السائد في لبنان، هي تلك الحملة التي قادتها المصارف ومصرف لبنان من أجل تحفيز السياسيين لإقرار التعديلات والقوانين المتعلقة بقواعد الامتثال الدولية سواء في التعديلات على قانون مكافحة تبييض الأموال أو ضبط نقل الأموال النقدية عبر المعابر الحدودية أو تبادل المعلومات الضريبية. مجدداً تمكنت المصارف بوصفها أكبر وأقوى لوبي لأصحاب المصالح في لبنان، من فرض أجندتها على السياسيين، وإقرار التعديلات التي كان بعضها لا يزال محور نقاش برلماني.
إذاً، هل القلق مبرّر من خفض التصنيف؟
في الواقع تقول مصادر متابعة، إن الأمر تهويلي أكثر مما هي الصورة الفعلية. فقد يكون خفض التصنيف امراً محتملا على مدى أبعد، أو عندما يفقد النظام المالي قدرته ومرونته، وقد يصبح امراً تهويلياً عندما تكون أطراف النظام، مثل المصارف، تريد تحقيق المزيد من الأرباح من الخزينة العامة أو من جيوب اللبنانيين.
3.7 مليارات دولار
أظهرت الميزانية المجمّعة للمصارف في نهاية أيلول 2015، أن ودائع المصارف نمت بقيمة 4.8 مليارات دولار لتصبح 155.05 مليار دولار، وأن ودائع المصارف لدى مصرف لبنان زادت بقيمة 5.7 مليارات دولار لتصبح 63.5 مليار دولار. توظيفات المصارف لدى القطاع العام لا تزال شبه مستقرّة، إذ كانت في نهاية 2014 نحو 37.36 مليار دولار وأصبحت في أيلول 2015 نحو 37.35 مليار دولار. أما تسليفات المصارف للقطاع الخاص المقيم، فقد ارتفعت بقيمة 1.46 مليار دولار لتبلغ 45.36 مليار دولار.
استقرار توظيفات المصارف في القطاع العام، أي في الدين العام كان غريباً، لكن الإحصاءات الصادرة عن مصرف لبنان تفسّره؛ فقد ارتفعت قيمة محفظة السندات لدى مصرف لبنان من 19.4 مليار دولار في نهاية كانون الأول 2014 إلى 23.07 مليار دولار، أي بزيادة 3.7 مليارات دولار. هذا المبلغ الإضافي هو استثمار غير مباشر في الدين العام، لكنه تم عبر مصرف لبنان، إذ إن المصارف تودع أو توظّف أموالها لدى مصرف لبنان بفائدة تصل إلى 8.5%، فيما مصرف لبنان يوظّفها في سندات الخزينة بفائدة أقل بنقطة أو نقطتين.