Site icon IMLebanon

الضاحية الجنوبية.. من يرفع الصوت والموت؟

كتب علي الحسيني في صحيفة “المستقبل”:

عاد شبح الإنتحاريين أمس الأوّل ليُخيّم على الضاحية الجنوبية مجدداً، ومعه عاد الخوف ليرسم ملامح مرحلة دموية قادرة على تحويل الأمكنة والأزمنة إلى مُجرّد ذكرى بمجرد الضغط على “زرّ” التفجير مُخلّفة ضحايا وأيتاما لن تنعم عيونهم بعد اليوم برؤية من اعتادوا العيش معهم ولن تُشفى قلوبهم من الحنين إلى لحظة دفء عائلاتهم على غرار الطفل المصاب حيدر حسين مصطفى الذي ينتظر في المستشفى عودة والديه ظنًّا منه أن زحمة السير الخانقة هي التي ما زالت تعوق وصولهما اليه.

على مقربة من “الحسينية” في شارع “عين السكة” في “برج البراجنة” كان الحدث. هناك وصل إنتحاريان وفجّرا نفسيهما وسط زحمة السير ليُعيدا إلى الأذهان مجدداً، مرحلة من جنون التفجير الهستيري تناثرت فيها الاشلاء على الطرق وشرفات الأبنية كما تتناثر قطع الزجاج مع فارق أن الأخير يُحدث صوتاً لحظة تناثره بينما هؤلاء الابرياء يرحلون بصمت من دون أن يُحدثوا ضجيجاً كي لا يُزعجوا من لا يريد الاعتراف بهم كأهل للمنطقة لا متاريس يتحصنون خلفها.

أمس ثقلت هموم وخطوات أهالي برج البراجنة بعد ليلة دامية أمضوها على الطرق أو متنقلين بين المستشفيات. بحثوا طوال ليلتهم بين الوجوه عمن ينصفهم من الموت الموعود ويزيح عنهم شبح رعب يأبى أن يفارقهم في أيام تحولت كواليسها الى جنون امتزجت عوارضه بالفوضى والخوف. أطفال سألوا عن ذويهم وأقارب لهم، لكنهم لم يجدوا إجابات تُشفي قلقهم على عمر لم يعد يحمل لهم سوى روائح البارود ولون النار. وفي الضاحية كانت عيون الأهالي تراقب حركة الليل قبل أن توصله بنهار مقبل سيحمل هواجس متجددة توصل إلى رصد حركة كل عابر صوبهم وسط خشية من أن يكون هذا العابر إنتحارياً ويحولهم في غفلة من العمر إلى مجرد ذكرى كأسلافهم.

لم يتنصل أهل برج البراجنة، وتحديدا سكان عين السكة، لا قبل التفجيرين ولا بعدهما من “المقاومة”، ولم يتوقفوا عن الدعوات لاجتثاث الإرهاب من جذوره، لكن مع هذا فقد سبق أن طالبوا بتنظيم الأمن في منطقتهم سواء كان “ذاتيّاً” ام شرعيّاً وخرجوا من أجل تحقيق هذا المطلب بتظاهرات ورفعوا الصوت عالياً ليُرفع عنهم الظلم الإقتصادي والمعيشي والإجتماعي الذي كانت وما زالت تفرضه عليهم ممارسات قوى “الأمر الواقع”، وهم اليوم يدفعون ثمن ثباتهم على مواقفهم، لكن في المقابل هناك من جعلهم يدفعون فاتورة وطنيتهم هذه مرتين، ويكونون ضحية الحرب والسلم.

تفجيرا الضاحية الأخيران، زادا معظم سكانها إيماناً أن لا خلاص لهم إلا بوحدتهم كلبنانيين رغم بعض الأبواق التي خرجت لحظتها لتحوّل المعركة الى مذهبية داخلية، وأيقنوا أن مؤسسات الدولة وعلى رأسها الأمنية، وحدها قادرة على حمايتهم وعلى ابعاد شبح التفجيرات عنهم تماما كما تفعل عند النقاط الحدودية. وتختلط هذه التأكيدات المجبولة بوجع الأمنيات مع كلام الطفل حيدر القابع في المستشفى لتلقي العلاج بعد اصابته في عينه اليُمنى “كنت مع بابا وماما وطلع فينا انفجار، احترقنا وطلع منا الدم”.

يومان مرّا على تفجيري الضاحية. أعداد الجرحى تتقلص ويقابلها ارتفاع في أعداد الشهداء، يومان وأصحاب إرادة الحياة يرفضون الخضوع لقرارات الموت على الطرق والذي بدأت تدخل هواجسه إلى نفوس الكثيرين، فمن بين الخراب وحجم الدمار الهائل ورائحة الدماء، مرّ مُعمّر من أبناء “عين السكّة” بالقرب من مكان التفجيرين، إتكأ على عصاه ثم نظر امامه ليبحث في الوجوه عن زمن لا يُشبه زمانه ولا حاضره، تلفظ ببضع كلمات قبل أن يومئ بيده نحو ما تبقى من احد المتاريس المصنوعة من أكياس الرمل، تبسّم ثم مشى في حال سبيله وهو يقول “ما في شي عم يمنع الموت”.