وافق مجلس النواب الخميس الماضي على اقتراحي قانونين لفتح اعتمادات إضافية بعد إدخال تعديلات «غير منطقية» على الارقام. القانون الأول كان يقضي بفتح اعتمادات اضافية بقيمة 5417 مليار ليرة لتغطية الإنفاق الإضافي لعام 2016، إلّا أنه جرى تخفيض المبلغ الى 4500 مليار ليرة بطريقة تشبه «المزاد» المفتوح، أمّا القانون الثاني، فيقضي بفتح اعتماد اضافي مخصص للرواتب والاجور يبلغ 861 مليار ليرة، وأُقر كما هو بلا اي نقاش جدي.
المبالغ «ملحة وضرورية»، بحسب الاسباب الموجبة لاقتراح القانون الأول، التي جاء فيها أن هناك «حاجة ماسة الى كامل الاعتماد المطلوب»، اي الى 5417 مليار ليرة. الا ان «المزاد» الذي فتحه رئيس الحكومة السابق، وزير المال السابق، فؤاد السنيورة، بيّن ان ذلك غير صحيح، لا المبلغ المطلوب مبرر، ولا تخفيضه جرى تبريره. ببساطة قال السنيورة إنّ «هذا المبلغ الكبير ولا يمكن أن يُنفق من خارج الموازنة»، على ما نقل رئيس لجنة المال والموازنة النائب ابراهيم كنعان، علما ان السنيورة نفسه سمح بالانفاق من دون وجود قانون للموازنة عندما كان رئيسا للحكومة بين عامي 2006 و2008. يعتقد كنعان أنّ المبلغ المطلوب بكامله ضروري من أجل تلبية إنفاق الدولة لعام 2016، إذ إنه يطاول على نحو أساسي خدمة الدين العام، معاشات التقاعد… إلّا أنّ «السنيورة يتبع دائماً نظرية حسم المبالغ من دون أن يرتكز على أي رؤية علمية أو معلومات لتبرير هذا الحسم».
أخبر السنيورة النواب فقط بأمر واحد: «لن أوافق لأن هذا المبلغ من خارج الموازنة»، ليأتيه الجواب أنّه «منذ 10 سنوات لا موازنات للدولة». شرح وزير المال علي حسن خليل للسنيورة كيف سيتوزع المبلغ، لكن السنيورة أصرّ على الحسم فانطلق البازار السياسي بحسم 50 إلى 60% من المبلغ المطلوب ليستقر في النهاية على حسم 30% من المبلغ، أي خفضه من 5417 مليار ليرة الى 4500 مليار ليرة. يرى كنعان أنّ «هذا الحسم غير مبرر ولا يرتكز على أمر منطقي إنما ما حصل هو مجرد تسوية لتمرير الأمر»، ورجّح ان تتكرر مشكلة نقص الاعتمادات في السنة المقبلة نتيجة التخفيض، الا انه رأى ان وزارة المال «اخبر» باعتبار ان اقتراح القانون لم يُناقش في لجنة المال والموازنة النيابية.
مجلس النواب سلطة تنفيذية
تمثّل هذه الجلسة نموذجاً وقحاً لعملية الإستهتار في إدارة المال العام في هذه الدولة، إذ ارتُكب في عملية إقرار قانون واحد عدد كبير من المخالفات الدستورية رسّخت نظاماً جديداً لإدارة المال العام اكثر سوءا من النظام السابق غير الدستوري ايضا، وعلى الرغم من ذلك جرى إقرار القانون من دون أن يلجأ أحد من النواب حتى اليوم الى التفكير في الطعن به أمام المجلس الدستوري.
فقد جرى تقديم اقتراح القانون بصفة المعجل المكرر من قبل النائب ياسين جابر، وبالتالي فالقانون لم يمر على اللجان النيابية المعنية بمناقشته كذلك لم تقترحه الحكومة. وعلى الرغم من أن طريقة فتح الاعتمادات استُخدمت سابقاً (بشكل غير قانوني أيضاً)، لكن للمرة الأولى يحصل ان يُقر قانون لم تناقشه لا الحكومة ولا المجلس النيابي! مجلس النواب يقترح ويقر اعتمادات مالية كبيرة، وبذلك يكون قد أدّى عمل الحكومة. يعلّق كنعان على الأمر بأنّ «ما جرى لا شك في أنه مشكلة، فجميع الأمور والقوانين لا تخضع للأصول القانونية، حتى إنه من غير المسموح به أن يقدّم نائب مشروع اعتماد بهذا الحجم الضخم!»، ليستطرد أنّ «الوضع اليوم إستثنائي وعلى القوانين أن تمر بسرعة».
يفصّل الوزير السابق السابق شربل نحاس أبرز المخالفات الدستورية التي حصلت في هذا القانون، منطلقاً من رئيس الحكومة تمام سلام الذي «لا حجة لديه تعفيه من موجب دستوري واضح تنص عليه المادة 83، والمتعلق بإرسال مشروع موازنة إلى مجلس النواب. كذلك لا حجة لديه تمنعه من وضع مشروع الموازنة على جدول اعمال مجلس الوزراء لمناقشته. إلا أن سلام لم يُنجز أي مشروع موازنة منذ سنتين، بالرغم من ان وزير المال علي حسن خليل أنجز مشروع الموازنة، وبالتالي فإن المسؤولية تقع على عاتق رئيس الحكومة». تقول المادة 83 انه «كل سنة في بدء عقد تشرين الاول تقدم الحكومة لمجلس النواب موازنة شاملة نفقات الدولة ودخلها عن السنة التالية ويقترع على الموازنة بندا بندا»، وهذه المخالفة الأولى.
يتابع نحاس أنّ «انعقاد مجلس النواب الأسبوع الماضي مخصص دستورياً لأمرين فقط: أولاً، المجلس هو هيئة ناخبة لا يمكن أن يكون على جدول اعمالها سوى انتخاب رئيس للجمهورية، وثانياً إن هذا العقد مخصص حصراً لإقرار الموازنة». فالمادة 86 تنص على انه «إذا لم يبت مجلس النواب نهائيا مشروع الموازنة قبل الانتهاء من العقد المعين لدرسه، فرئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس الحكومة يدعو المجلس فورا لعقد استثنائي يستمر لغاية نهاية كانون الثاني لمتابعة درس الموازنة (…)». تعني هذه المادة ان المجلس ملزم إقرار موازنة خلال هذه المدة ولا مجال لإقرار أي امر قبل ذلك، إلا أن المجلس أقر في جلستيه عددا هائلا من البنود لا علاقة لها لا بانتخاب رئيس للجمهورية ولا بإقرار الموازنة، وهنا المخالفة الثانية.
لا اعتمادات استثنائية خارج الموازنة
يتحدث نحاس عن أن «الموازنة تجيز للحكومة الإنفاق، لكن اذا حصل أمر طارئ واستثنائي في منتصف السنة، يحق لمجلس النواب أن يقر، بناءً على مشروع قانون ترسله الحكومة، إعتمادات إضافية إستثنائية ضمن موازنة السنة، وهنا يجب التشديد على عبارة ضمن موازنة السنة». المخالفة الثالثة تتمثل في تجاوز المادة 85 من الدستور التي تقول انه «لا يجوز أن يفتح اعتماد استثنائي إلا بقانون خاص. أما إذا دعت ظروف طارئة لنفقات مستعجلة فيتخذ رئيس الجمهورية مرسوما، بناء على قرار صادر عن مجلس الوزراء، بفتح اعتمادات استثنائية أو إضافية وبنقل اعتمادات في الموازنة على أن لا تتجاوز هذه الاعتمادات حدا أقصى يحدد في قانون الموازنة.
ويجب أن تعرض هذه التدابير على موافقة المجلس في أول عقد يلتئم فيه بعد ذلك». وبالتالي ما من إعتمادات استثنائية خارج الموازنة، لأن الموازنة هي إجازة بالإنفاق والجباية والاستدانة خلال سنة واحدة وبأقصى الحالات يمكن أن تمتد لشهر واحد فقط، اي كانون الثاني، تُطبٌّق خلاله القاعدة الاثني عشرية.
المخالفة الرابعة تتمثل في المادة 87 التي تنص على «ان حسابات الإدارة المالية النهائية لكل سنة يجب أن تعرض على المجلس ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة التالية، التي تلي تلك السنة وسيوضع قانون خاص لتشكيل ديوان المحاسبات». وهذا بالطبع لم يحصل.
يستكمل نحاس ملاحظاته: «أنّ الموازنة تحدد بشكل دقيق على ماذا تُنفق الأموال فتدخل في تفاصيل الأمور بحيث تتضمن على سبيل المثال حجم معاشات الموظفين في وزارة معينة، قرطاسية المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي…الخ. إلّا أنّ القيمين على المال العام إرتأوا، ودائماً خلافا للقانون -ما يقودنا الى المخالفة الخامسة- أن يجيزوا نقل الإعتمادات، أي انه ليس هناك موازنة محددة لأمور معينة بل «وزّعوها كما يشاؤون». يلفت نحاس هنا الى ان طلب السنيورة تخفيض المبلغ «بالجملة» وفتح البازار، ينسجم مع منطق «أذونات الإنفاق الأبدية» و»كليّة» الموازنة وبالتالي يدخل ضمن سياق النظام الجديد الذي جرى ترسيخه، إذ عندما أُقرت امكانية نقل الاعتمادات، لم يعد مهمّاً أي اعتماد سوف يُخفض ولهذا جرت مناقشة تخفيض المبلغ ككل من دون مناقشة ما هي الاعتمادات التي ستُخفض.
كانون الثاني شهر «أبدي»
إذاً، بعد 10 سنوات على إقرار قانون الموازنة الأخيرة ماذا فعل المؤتمنون على المال العام؟
توقفوا عن إعداد الموازنات ورأوا ان شهر كانون الثاني، الذي تنطبق عليه القاعدة الإثني عشرية، هو شهر «أبدي»، وبالتالي لا ضرورة لإنجاز الحسابات. هكذا طال شهر كانون الثاني 10 سنوات. يشرح نحاس أن «السياق الطبيعي للأمور يقوم على ازدياد النفقات نظراً لارتفاع الأسعار، التوظيف… لذلك بدأ هؤلاء عمل تراكمي إذ عمدوا الى المراكمة فوق الإعتمادات المفتوحة سابقاً، التي يُفترض ان تكون لسنة واحدة، مشيرين إلى انها صالحة للأبد».
أمّا الركن الأخير من النظام الجديد فهو أذونات الإستدانة، ويتعلق بسماح مجلس الوزراء لنفسه إصدار سندات خزينة بالليرة اللبنانية من دون أي سقف، إذ إنّ الإستدانة بالعملة الأجنبية تتطلب قانونا يصدر عن مجلس النواب على عكس الإستدانة بالعملة المحلية، وهو ما حصل في الجلسة الاخيرة، اذ اجاز مجلس النواب الاستدانة بالعملات الاجنبية بقيمة 3 مليارات دولار اضافية وترك السقف مشرّعا لاستدانة بلا حدود بالليرة.
هكذا، ستواجه الدولة عام 2016 عجزاً بقيمة 5831 مليار ليرة، من دون احتساب قيمة الاعتمادات التي خفّضت من اقتراح القانون الاخير (اي 917 مليار ليرة). نظريا، سيزداد الدين العام في عام 2016 بهذه القيمة، اي ما يعادل 3.9 مليارات دولار، وقد يرتفع اكثر نتيجة تخفيض المبلغ من قبل السنيورة، مع العلم أن 30% من المبلغ الاساسي الاضافي مخصصة لخدمة الدين العام، التي قدّرت بنحو 1611 مليار ليرة. يعلّق نحاس على هذه الزيادة بأنها نتيجة مبدأ التراكمية المتّبع، إذ إن هذا المبلغ ليس عن السنة المقبلة فقط، ونظراً لعدم تحديد أين تنفق الأموال بشكل دقيق «مناخذ هالمبلغ فرد مرة».