كتب المحرر الأمني في صحيفة “السفير”:
مع انكشاف معظم عناصر «شبكة برج البراجنة وجبل محسن»، باستثناء عدد قليل ممن هم قيد الملاحقة، تتصرف الأجهزة الأمنية ومعها «حزب الله» على أساس أن التهديدات الأمنية «عالية وجدية وقائمة في كل لحظة»، لكن هذه الجهوزية لا تمنع مسؤولاً أمنياً بارزاً من الاستنتاج أن تنظيم «داعش» تلقى حالياً ضربة قوية شبيهة بتلك التي تلقاها بعد انكشاف أمر الإرهابي نعيم عباس في شباط 2014 ومعظم المجموعة التي كانت تعمل معه، وبالتالي، سيحتاج بعد تفكيك «شبكة إبراهيم رايد» إلى فترة زمنية لإعادة تنظيم خلية جديدة شبيهة بالتي قتل أو أوقف معظم عناصرها، من دون إغفال احتمال وجود «خلايا نائمة»، خصوصاً في ظل وجود ما لا يقل عن عشرة إرهابيين خطيرين موزعين بين الشمال ومخيم عين الحلوة.
اكتملت صورة شبكة برج البراجنة وجبل محسن بالوقائع والأسماء والصور والأدلة، غير أن الجهد الاستعلامي الذي يندرج في خانة «الأمن الوقائي» لم ولن يتوقف، بحثاً عن خلايا ارهابية جديدة، وفي الوقت نفسه، ارتفعت وتيرة التدابير الأمنية سواء في الضاحية الجنوبية أو في مناطق لبنانية أخرى، فيما فُتح ملف التهريب عبر الحدود على مصراعيه مع انكشاف أدوار بعض من هرَّبوا الارهابيين من سوريا الى لبنان أو أمَّنوا لهم الإيواء لفترة زمنية معينة مقابل مبالغ مالية زهيدة.
وقال المسؤول الأمني لـ «السفير» ان جهد الأجهزة الأمنية سيتركز في المرحلة المقبلة على محاولة إقفال كل معابر التهريب في البقاع الشمالي، كما سيستمر العمل الأمني الدؤوب من أجل منع توفير بنية تحتية ولوجستية للإرهابيين اذا تمكنوا من عبور الحدود أو اذا تم تجنيدهم في لبنان، خصوصاً في ظل معطيات تشير الى وجود عشرات اللبنانيين الذين يشاركون حالياً في معارك على أرض سوريا والعراق ضمن تشكيلات «داعش».
ووفق المعلومات التي توافرت لـ «السفير» فإن لا مركزية بنية تنظيم «داعش» لا تمنع من تمتع التنظيم بمزايا لامركزية كثيرة على مستوى المجموعات التي تنضوي تحت رايته شرط توفر الآتي:
أولاً، اعتراف التنظيم بالمجموعة التي تعلن انتماءها اليه.
ثانياً، التعامل مع المجموعة بوصفها باتت تشكل امتداداً للتنظيم المركزي الأساسي في سوريا والعراق مع التأكيد على أهمية الالتزام القيادي والطاعة.
ثالثاً، الاستفادة من سهولة تنقل شخصيات قيادية بين التنظيم الأم والمجموعات العاملة خارج سوريا والعراق.
رابعاً، قدرة هذه المجموعات على الاستفادة من الموارد المالية والعسكرية والتنظيمية لـ «داعش».
خامساً، أهمية التزام خطاب «داعش».
سادساً، توافر آلية تواصل، وهذه النقطة مفتوحة على احتمالات شتى سواء عبر المواقع الالكترونية أو مواقع التواصل وصولاً الى استخدام بعض الألعاب التي يمكن تبادل الرسائل فيها والتواصل عبرها (نموذج «البلاي ستايشين» بآخر موديلاتها)، فضلاً عن استمرار صيغة الشيفرة المعمول بها منذ عقود طويلة من الزمن.
وما تتوقف عنده الأجهزة الأمنية اللبنانية هو وجود شخص مثل «أبو البراء» اللبناني (محمد عمر الايعالي) ضمن صفوف قيادات التنظيم في الرقة، إذ إن الأخير متصل مباشرة بأحد مساعدي أبو بكر البغدادي وهو أبو محمد العدناني، بدليل أنه نجح في إيصال عدد كبير من اللبنانيين عبر تركيا الى الرقة حيث كانوا يقدمون هناك «بيعة الحرب» أو «البيعة الشاملة» الى العدناني.
وفضلاً عن مشاركة العشرات في القتال، تمكنت الأجهزة الأمنية، وخصوصاً الأمن العام، من توقيف حوالي ثلاثين شاباً لبنانياً خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، معظمهم على عتبة العشرين من عمرهم وكانوا في طريقهم الى تركيا ومن ثم الرقة للمشاركة في دورات دينية أولاً وعسكرية ثانياً، عن طريق «ابو البراء»، كما تم إحصاء قيام لبنانيين بتنفيذ عمليتين انتحاريتين في العراق وحوالي 10 لبنانيين في سوريا منذ مطلع الصيف الماضي حتى الآن.
كما قُتل نحو 15 لبنانياً خلال الفترة نفسها في العراق وسوريا خلال مشاركتهم في معارك «داعش» وآخرهم نجل الشيخ عمر بكري فستق الذي يحمل الجنسيتين اللبنانية والإنكليزية.
ويستنتج الأمنيون المعنيون بمتابعة ملف «داعش» لبنانياً في ضوء هذه الوقائع والأرقام والمعطيات، أن الضغط الذي مارسته الأجهزة العسكرية والأمنية اللبنانية بصورة يومية على هذه المجموعات، جعل معظم من تم تجنيدهم يتوجهون أو يحاولون التوجه الى سوريا، كما أن ضغط «التحالف الدولي» سابقاً و «عاصفة السوخوي» الروسية مؤخراً، جعل «داعش» يركز على أهمية المعركة التي يخوضها على أرض «الدولة» (العراق وسوريا)، لكن من دون أن يهمل باقي الساحات بدليل التفجيرات التي حصلت في فرنسا، والتي كان يُفترض أن تتزامن مع سلسلة تفجيرات في لبنان (برج البراجنة وجبل محسن) واسطنبول وبريطانيا وتونس، حيث أُحبط في الأخيرة هجوم كان سيطال شخصيات ومراكز حيوية في مدينة سوسة التونسية، بالتزامن مع هجمات باريس (الليلة نفسها).
وبحسب أمنيين لبنانيين يتواصلون مع أجهزة أمنية أوروبية وأجنبية، فإن لبنان وبرغم إمكاناته الأمنية المتواضعة كان قد وجه تحذيرات واضحة للأجهزة الأوروبية وخصوصاً الفرنسية غداة مجزرة «شارلي إيبدو» في السابع من كانون الثاني الماضي، بأن المطلوب من الفرنسيين عدم الاكتفاء في موقف المتفرج «إذ إننا نحن ندفع الفاتورة الآن ولكنكم ستدفعون الفاتورة قريباً».
واللافت للانتباه أن الفرنسيين أجابوا على التحذيرات اللبنانية بالكشف أنهم رصدوا غداة «مذبحة شارلي إيبدو» أكثر من أربعة آلاف اتصال ضمن الأراضي الفرنسية لمتضامنين مع منفذي المجزرة، معظمهم من حاملي الجنسية الفرنسية، وهم ألمحوا الى أن هذا ما نعرفه ولكن الأخطر هو وجود أرقام مضاعفة من المتعاطفين وربما يكون الكثير منهم قد تم تجنيده ضمن شبكات ارهابية.
والمؤلم في هذا السياق ما قاله مسؤول فرنسي كبير لنظيره اللبناني غداة تفجيرات باريس «بأننا لو كنا نعرف أن الكلب الذي نطعمه يمكن أن يعضنا لما كنا قد أطعمناه»، في أوضح اعتراف بالتسهيلات التي كانت أجهزة أجنبية تقدمها لـ «مجموعات جهادية» شرط أن تتحكم بالمسارات التي تتوجه اليها (مثلاً سوريا بدل مالي)!
ويلمح المسؤول اللبناني الى أن مسؤولاً في جهاز أمني غربي (دولة كبرى) أبلغه بصريح العبارة غداة عملية الكوماندوس الأميركية التي أدت الى مقتل «أبو سياف» في حزيران 2015، أن الأميركيين حصلوا خلال العملية المذكورة على وثائق بالغة الأهمية تكشف شبكة علاقات «داعش» وآليات عملها وبنيتها الإدارية، غير أن هذا «الكنز الأمني الذي لا يُقدَّر بثمن» لم يُترجم في أي بنك للأهداف، الأمر الذي يطرح علامات استفهام كبيرة، حول الشبكات التي كان يمكن اكتشافها والأهداف التي كان يمكن لـ «التحالف الدولي» ضربها. كما تطرح علامات استفهام حول عدم استهداف حقول نفط «داعش» واستمرار الحدود التركية ـ السورية مفتوحة في مسافة تتراوح بين 80 و100 كيلومتر، الأمر الذي يوفر يومياً تدفق مئات المقاتلين الأجانب!
هذا التعامل الغربي يجعل الأجهزة الأمنية اللبنانية لا تستكين، بل تتصرف على أساس أن تنظيم «داعش» هو جهاز محترف يعادل في عمله الجيوش والأجهزة المحترفة، وبالتالي يجب التصرف على أساس أنه يتفوق على امكانات من يواجهونه، الأمر الذي يقتضي العمل على تطوير القدرات والإمكانات وشبكة الاستعلام الأمنية اللبنانية، فضلاً عن أهمية تشكيل غرفة عمليات أمنية توفر قدرة أفضل في التعامل مع الأحداث والوقائع الأمنية.
لا يجب أن يغيب عن بال أحد أنه يوجد حوالي 10 إرهابيين خطيرين للغاية يتنقلون حالياً بين الشمال والبقاع والجنوب وأبرزهم: شادي المولوي ومحمد جوهر (مقرهما عين الحلوة)، نبيل سكاف وطارق الخياط وبلال البقار (يتنقلون في الشمال)، وهؤلاء يشكلون مجموعة خلايا، من دون التقليل من جهد الأجهزة الأمنية وخصوصاً القاء القبض في تشرين الماضي على التوأم: زياد وجهاد كعوش (مواليد 1991)، وهما من أبرز الكوادر القياديّة في «داعش» العاملين داخل مخيّم عين الحلوة، وتبين أن القيادي في «داعش» المدعو «أبو أيوب العراقي»، قد كلفهما بإنشاء إمارة في مخيمات بيروت، على أن يكون مخيم برج البراجنة ركيزة اساسية لها في اتجاه تنفيذ عمليات ضد الضاحية الجنوبية والجيش اللبناني.