كما هو الحال منذ عدة أشهر، تراقب وسائل الإعلام الدولية والمؤسسات المالية قرارات مجلس الاحتياطي الفيدرالي (المركزي الأمريكي) عن كثب، وتخضع كل كلمة ترد في بيان له أو تصريح يصدر عن كبار المسؤولين فيه لتحليل دقيق وتفسير متأن عسى أن تجد فيه إجابة شافية عن السؤال المطروح منذ عام تقريبا متى يرفع الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة.
فقرار بهذا المستوى تتجاوز تبعاته الاقتصاد الأمريكي، ليطول الاقتصاد العالمي والأسواق المالية تحديدا، وسيترك بصمات واضحة على قيمة الدولار وعلاقته بغيره من العملات، وبالطبع سيكون له تأثير في سوق الأسهم والسندات محليا ودوليا.
وبكشف مجلس الاحتياطي الفيدرالي عما جرى في اجتماعات قيادته في الشهر الماضي، يظهر لنا بوضوح أن كبار المسؤولين في تلك المؤسسة المالية العملاقة وفي مقدمتهم رئيسة المجلس جانيت يلين باتوا أكثر قناعة وثقة بأن مؤشرات الاقتصاد الأمريكي يمكن أن تصمد أمام الرياح غير المواتية التي تهب عليهم من الاقتصاد العالمي، سواء من الاقتصاد الصيني أو الأوروبي أو حتى من اقتصادات الأسواق الناشئة.
وأوضح التقرير أن أغلب الـ 17 عشر مسؤولا الذين شاركوا في اجتماعات الشهر الماضي، أعربوا عن قناعتهم بأن الاقتصاد الأمريكي سيكون مستعدا للتعامل مع تداعيات رفع أسعار الفائدة بحلول الشهر المقبل، وأن التأخر في الإقدام على تلك الخطوة أكثر من ذلك، سيؤدي إلى إرسال رسائل سلبية للأسواق المالية الدولية بعدم يقين المسؤولين الأمريكيين من تحسن الوضع الاقتصادي.
كما أن عدم زيادة أسعار الفائدة التي تقارب صفر في المائة منذ عام 2008، واستمرار برنامج التحفيز الكمي سيؤدي إلى تشويه النظام المالي في الولايات المتحدة عبر ترسيخ مفاهيم “الاعتماد المفرط” على دعم الدولة.
على الجانب الآخر، فإن بعض المشاركين في اجتماعات الفيدرالي، تمسكوا بمواقفهم الداعية للتريث في رفع أسعار الفائدة خشية انعكاس ذلك سلبا على معدلات التضخم، التي تقل حاليا عن المعدلات التي يستهدفها مجلس الاحتياطي الفيدرالي والمقدرة بـ 2 في المائة.
ويقول لـ “الاقتصادية”، الدكتور ليتون ليكس رئيس قسم الاقتصاد المعاصر في جامعة إيسكس، إنه في الأغلب ستنتصر وجهة النظر الداعية إلى رفع أسعار الفائدة الأمريكية، ولا يعود ذلك إلى أن مؤشرات الاقتصاد في تحسن، صحيح أن هذا عامل مهم لكنه ليس العامل الأوحد، فالأكثر خطورة هو أن الإبقاء على أسعار الفائدة الأمريكية مقاربة للصفر حاليا سيكون شديد الخطورة إذا ضربت أزمة مالية أو اقتصادية الولايات المتحدة مرة أخرى، إذ لن تكون لديها أي ذخيرة لمواجهتها، فخفض سعر الفائدة واستمرار سياسة التحفيز الكمي لسنوات كانتا وسيلة الاقتصاد الأمريكي للخروج من أزمته، ولكن الاستمرار باستخدامهما يعني حرمان صانع القرار الاقتصادي من أي وسائل تنتمي إلى المنظومة المالية لمواجهة أي أزمة اقتصادية مقبلة.
ومع هذا، فإن المسؤولين في الفيدرالي الأمريكي كانوا حريصين على ألا يتضمن تقريرهم أي تعبير أو نص يمكن منه الفهم بشكل قاطع وحاسم أنه سيتم رفع أسعار الفائدة في الشهر المقبل، لأنه إذا لم يتم ذلك في كانون الأول (ديسمبر) فإن ردود فعل المستثمرين ستؤول الوضع على أن الاقتصاد الأمريكي يواجه مشاكل حادة دفعت بالمجلس الفيدرالي للتراجع عن تعهداته برفع الفائدة.
وعلى الرغم، من أن التكهنات سادت في عديد من المرات بقرب موعد رفع الفائدة الأمريكية، ما جعل الأسواق الدولية متأهبة لتلك الخطوة، فإن آخر التقديرات تشير حاليا إلى أن 60 في المائة من المستثمرين لديهم قناعة بأن أسعار الفائدة سترتفع في الشهر المقبل.
لكن هذه القناعة لا تخفي وراءها تضارب التخمينات بشأن النسبة التي سترتفع بموجبها الفائدة، ويوضح لـ “الاقتصادية”، إيدورد ريد الاستشاري من مجموعة لويدز المصرفية، أن القضية هذه المرة لا تبدو بسيطة لعدد من الأسباب، فبالنسبة لأي دولة فإن ارتفاع أو انخفاض معدل الفائدة قرار يرتبط أساسا بالمؤشرات الاقتصادية المحلية، وبالنسبة للولايات المتحدة الأمر أكثر تعقيدا من ذلك، فهو لا يرتبط فقط بالمؤشرات الاقتصادية الداخلية، وإنما بمدى التأثير في الاقتصاد العالمي وفي كل من الاقتصاد الصيني والأوروبي تحديدا.
وأضاف إيدورد ريد، أن رفع الفائدة سيجعل الاقتصاد الأمريكي قادرا على جذب عديد من رؤوس الأموال الدولية، وهذا سينعكس سلبا على اليورو واليوان، وإذا لم تحسب درجة الزيادة في الفائدة الأمريكية بدقة، فإن الأمر يمكن أن يذهب إلى منحنيات خطيرة دوليا من بينها تفجر حرب عملات على نطاق واسع.
وبمجرد نشر محضر اجتماعات الفيدرالي الأمريكي شهدت الأسواق تحركات إيجابية ولكنها محدودة، فمؤشر داو جونز ارتفع بـ 247.66 نقطة أي ما يعادل 1.4 في المائة، أما مؤشر إس وبي 500 فقد تحسن بـ 1 في المائة، فيما ظلت أسعار اليورو ثابتة أمام الدولار، أما سندات الخزانة الأمريكية ذات العامين فقد ارتفعت بـ 0.16 في المائة.
وربما يعزز المنحنى الإيجابي للبورصة الأمريكية قيام السلطات المالية في الولايات المتحدة برفع أسعار الفائدة الشهر المقبل، وخاصة أن مؤشرات سوق العمل في تحسن إذ انخفضت البطالة إلى 5 في المائة فقط أي نصف ما بلغته عام 2009، كما تحسنت معدلات الأجور أيضا في الشهر الماضي.
وتتزامن تلك التوقعات برفع الفائدة مع صدور بيانات تشير إلى ارتفاع أسعار المستهلك خلال تشرين الأول (أكتوبر) الماضي بنسبة 0.2 في المائة مقارنة بالشهر السابق، في أول إشارة إلى ارتفاع معدل التضخم منذ تراجع أسعار النفط.
وهذه هي أكبر زيادة في أسعار المستهلك منذ حزيران (يونيو) الماضي، حيث بلغ معدل التضخم السنوي 0.2 في المائة مقابل نحو صفر في المائة خلال أيلول (سبتمبر).
وحتى مع ارتفاع معدل التضخم، فإن أسعار المستهلك لم تشهد تغيرا كبيرا خلال الأشهر الأربعة الأخيرة، وذلك بعد تراجعها في آب (أغسطس) وأيلول (سبتمبر) الماضيين على خلفية جولة جديدة من هبوط أسعار الطاقة.
يشار إلى أن العوامل المؤثرة في قرارات السياسة النقدية في الولايات المتحدة تتضمن حالة سوق العمل ومعدل التضخم حيث يسعى مجلس الاحتياطي الاتحادي إلى تحقيق هدف مزدوج وهو أقصى معدل للتوظيف في الولايات المتحدة مع استقرار الأسعار.
وكان معدل التضخم المنخفض منذ بدء تعافي الاقتصاد الأمريكي في 2009 سببا رئيسا في الإبقاء على سعر الفائدة عند مستواه القريب من صفر في المائة دون تغيير حتى الآن.
وكان مجلس الاحتياطي الاتحادي قد أرجأ تشديد سياسته النقدية في ظل ضعف معدل التضخم وتباطؤ نمو سوق العمل في آب (أغسطس) وأيلول (سبتمبر) الماضيين.
في الوقت نفسه، سجلت سوق الوظائف أقوى نمو لها خلال العام الحالي حيث انخفض معدل البطالة إلى 5 في المائة وهو أدنى مستوى له منذ نيسان (أبريل) 2008، وكان معدل البطالة قد وصل إلى أقصى مستوى له في تشرين الأول (أكتوبر) 2009 في ذروة الأزمة المالية الأمريكية مسجلا 10 في المائة.
وأشارت جانيت يلين رئيسة مجلس الاحتياطي الاتحادي في وقت سابق من الشهر الحالي إلى أن المجلس قد يبدأ الزيادة التي طال انتظارها لسعر الفائدة الأمريكية أوائل كانون الأول (ديسمبر) المقبل.
وأكدت يلين في شهادتها أمام إحدى لجان الكونجرس الأمريكي البيان الصادر عن المجلس في تشرين الأول (أكتوبر) الذي يقول إن لجنة السياسة النقدية في مجلس الاحتياطي الاتحادي تتوقع استمرار نمو الاقتصاد الأمريكي بوتيرة كافية لتحقيق مزيد من التحسن في سوق العمل وارتفاع معدل التضخم إلى 2 في المائة وهو المعدل المستهدف على المدى المتوسط.
وسجل الاقتصاد الأمريكي تباطؤا حادا في النمو خلال الربع الثالث بسبب الانكماش الحاد في مخزون الشركات.
ووفقا للبيانات الأولية الصادرة عن مكتب التحليل الاقتصادي الأمريكي الأسبوع الماضي، فقد نما أكبر اقتصاد في العالم بمعدل 1.5 في المائة في الربع الثالث، مقابل نمو بمعدل 3.9 في المائة في الربع الثاني.