كتبت كلير شكر في صحيفة “السفير”: مهما بدت الاختلافات جذرية بين “حزب الله” و “تيار المستقبل” بعد عرض مقاربتيهما لتسوية سياسية ستحصل عاجلاً أم آجلاً، بحيث يطرحها الأول وفق “سيبة” ثلاثية (رئاسة الجمهورية، الحكومة برئاستها وتركيبتها، وقانون الانتخابات)، بينما يحصرها الثاني بالرئاسة الأولى، فإنّ أبرز تقاطع يسجّل بين الفريقين هو رغبتهما، إن لم نقل حاجتهما، لولوج درب التسوية.
لا مفرّ من خضوع التركيبة اللبنانية لهذا الاختبار الذي سيأتي وفق توقيت الساعة الإقليمية أولاً، مهما بدا الوضع الداخلي مستعجلاً لعقد اتفاق صار لا بدّ منه لإعادة إنتاج السلطة.
صحيح أنّ الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله تعمّد في نواة مبادراته تجاهل بند التعديلات الدستورية، لا بل أكد تمسكه بتسوية وفق اتفاق الطائف، الا أنّ هذا لا يعني أبداً أنّ مقومات التسوية باتت محسومة على هذا الأساس.
لقد تماهت فلسفة “وثيقة الوفاق الوطني” مع عناصر وموازين قوى داخلية وإقليمية ودولية، تكفي مراجعتها بعد نحو ربع قرن من الزمن للقول إن مقومات بقائها وصمودها صارت صعبة جداً ربطاً بعوامل ذاتية تُختزل بعُقد التعطيل التي تشلّ الدستور، وبعوامل خارجية متصلة بموازين القوى المحلية والإقليمية المستجدة.
لهذا، فإنّ الاعتقاد السائد، هو أنّ “الثنائي الشيعي”، لن يقبل بتفاهمات موضعية تحلّ أزمة الرئاسة أو تعيد النبض الى الحياة البرلمانية بعد تجديد عروقها، إنما سيسعى للاستحصال على منظومة ضمانات دستورية تحرره من تسلّط الآخرين ورفضهم منطق الشراكة منذ أن تحرر لبنان من الوصاية السورية حتى الآن.
ومع ذلك، فإنّ منطق الأمور يشير الى أنّ التسوية المرتقبة ستكون بين حدّين: الأول، هو بقاء المعادلة القائمة على ما هي عليه، بمعنى انتخاب رئيس ترضى عنه قوى “8 آذار” وتسمية رئيس حكومة من قوى “14 آذار” مع “فيتو” حكومي معطل لمصلحة الفريق الاول، الى جانب قانون انتخابات يرضي المسيحيين أولاً.. أو الذهاب الى الحدّ الأقصى وهو إبرام طائف جديد.
وفي ضوء هذه المتغيّرات، يُسأل المسيحيون عن موقعهم، مقاربتهم، وحساباتهم المستقبلية؟
لا “أجندة” مشتركة قد تجعل القوى المسيحية المتخاصمة، كما تلك المتفاهمة، ضمن قارب واحد الى طاولة المفاوضات مع الشركاء الآخرين. في هذه الحالة يُخشى، كما كان يحصل دوماً، من أن يكون المسيحي الحلقة الأضعف، ليس بسبب تراجعه الديموغرافي، وإنما لعدم قدرة قياداته على فرض “أجندة” موحّدة.
هنا، يسجّل مسيحيون معنيون، سلّسلة ملاحظات على أداء القوى المسيحية ربطاً بالتحديات التي تنتظرهم:
أولاً، الأزمة التي تواجه المسيحيين، ذات وجهين: أولها، إشكالية العلاقة بين القوى المسيحية المثقلة بخلافات فئوية لها علاقة بمصالح قياداتها الشخصية وبارتباطاتهم التحالفية وبنزعات السيطرة وتوسيع رقعة النفوذ، وثانيها، إشكالية العلاقة مع الشركاء الآخرين والتي لا تأخذ بالاعتبار مصالح المسيحيين مساراً ومصيراً.
ثانياً، يتصرّف المسيحيون مع الأحداث التي تواجههم “على القطعة”، فيحاولون “ترقيع” الأمور، مع أنهم يعرفون أنّ أزمتهم أكثر عمقاً وصعوبة من تلك التي تواجههم في يومياتهم، وهي بعيدة الأمد وتتطلب خريطة طريق موحّدة كي يتمكنوا من معالجتها بهدوء ووعي وكثير من التأني، بعد الأخذ بالاعتبار المتغيّرات المحلية والخارجية التي قد تطرأ وتؤثر على المشهد اللبناني.
ثالثاً، لقد نجح “التيار الوطني الحر” و “القوات اللبنانية” في تسجيل نقطة لمصلحتهما عبر فرض قانون استعادة الجنسية وتصويره على أنه انتصار تاريخي للمسيحيين، وأن بمقدور مفاعليه أن تعيد بعض التوازن الديموغرافي الى التركيبة اللبنانية المختلة. هذه المقولة تصح لو كانت القوى المسيحية قادرة على وقف الهجرة من الداخل الى الخارج عبر تأمين الحدّ الأدنى من العيش الكريم لأبنائها، وخلق فرص عمل للشباب وتعزيز الاستقرار الذي يتيح جذب الاستثمارات، قبل التفكير بمن هاجروا قبل أكثر من قرن ولن يعودوا مهما بلغ حجم الإغراءات.
رابعاً، إذا كان المقصود من قانون استعادة الجنسية تشجيع المستثمرين من أصل لبناني على تشغيل بعض “ملايينهم” في السوق المحلية، فلا بدّ قبل كل ذلك تأمين الاستقرار السياسي والأمني قبل عرض هذا الاحتمال عليهم.
خامساً، المطلوب تطوير الالتقاء بين المتخاصمين مسيحياً ليس على قاعدة قول الـ “لا” دائماً، بل فرض “نعم”، أي استعادة زمام المبادرة، سواء على مستوى رئاسة الجمهورية أو قانون الانتخابات أو غيرهما.
سادساً، بنظر بعض المسيحيين المعنيين، فإنّ أبناء الكنيسة مقبلون على تحديات كبيرة لا يتحمّل الآخرون وحدهم مسؤوليتها، وعليهم الاستعداد لها من خلال خريطة طريق مشتركة تجمع بينهم وبغطاء كنسي، يحددون فيها سلّم أولوياتهم على المدى البعيد الاستراتيجي، أهي الرئاسة أم صلاحياتها، أم قانون انتخابات يعيد لهم بعض ما أضاعوه بالقوانين السابقة، أم قانون اللامركزية الإدارية، أو كلها مع بعضها؟
لهذا، من الأجدى التعامل مع التحديات وفق سلّم أولويات، كي لا يصار الى خوض معارك بطولية في سبيل قضايا آنية أو قضايا يعتقدون راهناً أنها مصيرية، سرعان ما يبكونها أو يرذلونها بعد فترة. كما حصل مثلاً حين رفعوا علامات النصر عندما حصّلوا “قانون الستين” في مؤتمر الدوحة، ليتبيّن في ما بعد أنه لعنة وليس نعمة للمسيحيين.
كما أنّ أي تصور مشترك لا بدّ أن يأخذ بالاعتبار موقف الشركاء الآخرين منه ومصالحهم فيه، بمعنى أنّه لا يمكن المطالبة بأي مشروع لا يكون مقبولاً من الأطراف الأخرى وإلا سيكون مصيره أدراج الزمان كما حصل مع مشروع “القانون الأرثوذكسي”.
ولأنّ هذه القيادات تدرك جيداً أنّ التسوية اللبنانية لن تُطبخ إلا على نار إقليمية، ثمة من يسأل عن الأسباب التي تدفع الى رفع السقوف في الوقت الراهن لدرجة تعطيل كل المؤسسات الدستورية، وهي تعرف أنّ هذا التعطيل لا يمكن استثماره في أي مطرح اذا لم تأت ساعة التفاهم الكبير، بينما المطلوب استثمار الوقت الضائع في معالجة شؤون الناس الحياتية واليومية.. بانتظار الانفراج الإقليمي.
الأهم من ذلك كله، كما يقول هؤلاء، هو اقتناع القوى المسيحية أنّ توافقها على ورقة مشتركة هو حماية لمصالحها، لأنّ الاستفراد بإحداها أو إضعافها، سيكون مردوده سلبياً لهذا وذاك في آن معاً.