أوقف محامٍ بجرم انتحال صفة قاضٍ. أُثبت ذلك بتسجيلات صوتية ومقاطع مصورة وإفادة خمسة شهود. لكن لم يكد يمرّ يوم واحد على قرار توقيفه، حتى أُطلق سراحه بكفالة مالية قدرها 20 مليون ليرة. تُرِك المشتبه فيه حُرّاً، رغم خداعه قضاة ومحامين وسياسيين، من بينهم رئيس مجلس النواب نبيه برّي، فضلاً عن عمليات نصب بعشرات الملايين. فكيف بدأت القصة؟
أن يُقنِع شاب عشريني بضعة أشخاص، لفترة قصيرة، بأنّه قاضٍ فذلك أمرٌ مُحتمل الحدوث. أما أن يخدع محامٍ متدرّج محامين وقضاة وسياسيين ووسائل إعلام بأنّه قاضٍ في المحكمة الدولية، ويصمد في خداعهم لسنوات، فيستحقّ الفاعل على ذلك “جائزة دولية في النصب والاحتيال”. وقصة هذا المحامي كانت حديث قصر العدلية طوال الأيام الماضية، وعززها الجدل الذي اندلع إثر توقيفه، ثم إخلاء سبيله.
الخميس الماضي، أشار المحامي العام الاستئنافي في جبل لبنان القاضي سامر ليشع، بتوقيف “وليد ف.” بجرم انتحال صفة قاضٍ، غير أن قاضية التحقيق في جبل لبنان ساندرا المهتار قررت إخلاء سبيله بكفالة قدرها 20 مليون ليرة في اليوم التالي، سنداً إلى مضمون المادة 111 من قانون العقوبات، بشكل مفاجئ. استأنف المحامي العام في جبل لبنان القاضي داني شرابية قرار الترك، ليعود من بعده رئيس الهيئة الاتهامية الياس عيد ويُصادق على قرار الترك نهار الاثنين. فأن يُترَك محامٍ انتحل صفة قاضٍ لسنوات، واستغلّ الصفة القضائية هذه لتنفيذ عمليات نصب واحتيال، ولو تُجيز الاستنسابية الممنوحة للقاضي تركه، فإنّها قضية تحتاج إلى نقاش، ولا سيما أن قصة المحامي الذي أتقن دوره ببراعة فريدة من نوعها تستحق أن تُسرد.
القاضي المدعى عليه بجرم الاحتيال له مجموعة أخبار منشورة تُفيد بأنّه قاضٍ. مثّل القضاء اللبناني خلال افتتاح مدرسة في الجنوب، فيما ذُكر اسمه بوصفه محامياً عاماً استئنافياً خلال تمثيل إحدى الجرائم بحضور القاضي ح. ش. ليس هذا فحسب، حتى عندما تبحث عنه على برنامج Truecaller أو number book اللذين يُستخدمان لمعرفة هوية صاحب رقم هاتف، فستجد أنّ صفة القاضي أو الريّس تلازم اسمه في أكثر من موضع. لكن كل ذلك، لا يكفي للإدانة! قد يقال إنّه خطأ الصحافة وتعقيدات التكنولوجيا، لكن إيفان الدايخ، واحدٌ من ضحايا القاضي المفترض، تحدّث إلى “الأخبار” عن أصل الحكاية.
يروي الدايخ الذي اتّخذ ضده صفة الادعاء الشخصي بجرم النصب والاحتيال وانتحال صفة قاضٍ، أن القصة بدأت منذ عام 2010 يوم جنازة والده. يذكر أن زوجة والده قدّمته في العزاء بصفة قاضٍ. قدّم واجب العزاء ثم رحل. تجدد اللقاء بعدها. يذكر الدايخ أن “القاضي المفترض عرض خدماته بتكليف أحد معاونيه لمساعدتنا في ملف عالق أمام مالية جبل لبنان يتعلق بتركة والدي. أخبرنا بأنّه مقرّب من الرئيس نبيه برّي وله معارف كُثر سيساعدون في الإسراع بإنجاز الملف”. ويضيف: “كلّفناه واستمرّ في غشّنا حتى عام 2014. خلال أربع سنوات، كان يُمثّل علينا، لكن شاءت الصدفة أن يقع”. أما عن أصل القضية، فيذكر الدايخ أنّهم دفعوا له مبلغ 120 مليون ليرة لإنجاز المعاملات التي تُكلّف 300 ألف دولار. ويقول: “أوهمنا بأنّه وفّر علينا باقي المبلغ ليتبيّن أننا وقعنا ضحية نصب. أخذ المال وبدأ يماطل أسبوعاً بعد آخر”. ويؤكد إيفان أنهم سألوا عنه عدداً من المحامين الذين أكّدوا لهم أنّه “قاضٍ وهو يتردد دائماً إلى منزل الرئيس بري في عين التينة”. قضية إيفان فصلٌ بسيط من الفيلم الذي أدّى المحامي المتدرّج دور البطولة فيه. ففي سلك القضاء له ألف مغامرة ومغامرة.
“قنبلة صوتية طوشت سلك القضاء” يجيب أحد القضاة عن سؤال: “من هو الشاب وليد ف.؟”، متحدثاً عن “قاضٍ ظاهرة” خدع كثيرين خلال السنوات الخمس الماضية. يقول القاضي إنّ المحتال “يحمل إجازة في الحقوق، وربما حصّل الماجستير، لكنه تقدّم إلى امتحانات معهد القضاء ورسب”. يعيد القاضي، الذي خَبر المحامي الذي انتحل صفة قاضٍ عن قُرب لسنوات، سرد ماضي الشاب الذي تخطى الثلاثين بسنة أو سنتين. فيذكر أنّه في أوّل مشواره المهني تعاقد مع بعثة الأمم المتحدة في دارفور بصفة كاتب، لافتاً إلى أن هذه الوظيفة كانت مفصلية في حياته. ومنذ ذلك الحين، بدأ يُروّج بأنّه قاضٍ دولي. تقرّب بعدها من مجموعة من القضاة، أبرزهم القاضي ح. ش. بعد ذلك، عمد منتحل الصفة إلى وضع “بلاك” قضاء على سيارته، بعدما زوّد زجاج سيارته بحاجبٍ للرؤية “فيميه”. فكيف يُكشف، طالما أن أبناء الكار القضائي أنفسهم انطلت عليهم الخدعة؟
يروي أحد ضحاياه لـ”الأخبار” أنّ القاضي المفترض شهد في إحدى المرات خلافاً مرورياً على الطريق، فنزل للفصل بين المتنازعين، معرّفاً عن نفسه بأنّه القاضي الفلاني. لم تقف الأمور عند هذا الحد، لتكرَّ السُبحة. ينقل أحد القضاة لـ”الأخبار” أن القاضي المزعوم زار غرف الامتحانات في إحدى النقابات لتفقّد المتقدمين للامتحان بوصفه قاضياً دولياً. كما قدّم نفسه لاحقاً مستشاراً قانونياً لأحد وزراء العدل السابقين. لم تقف الأمور عند هذا الحد، وصلت الجرأة بهذا الشاب إلى إكمال تمثيليته على برّي.
فانطلت الحيلة على “الأستاذ”، الذي تعرّف إليه عبر قاضٍ قدّمه له كقاضٍ زميل في محكمة دولية. و”يا غافل إلك الله”، لتتكرر بعدها زيارات القاضي المزعوم لعين التينة. تمكن خلالها وليد ف. من اقتناص صورة له إلى جانب دولة الرئيس، ما أعطاه مشروعية لدى كُثُر شاهدوه هناك. حتى في المحكمة الشرعية، صار القضاة يعرّفونه بـ”الريّس وليد. قاضٍ محترم ونابغة”. وينقل أحد الشهود، المحامي عيّاد عاصي، الذي كاد أن يقع ضحيته بعدما أوهمه بأنّه سوف يتدخّل لدى المديرة العامة للأحوال الشخصية سوزان خوري، من خلال علاقاته، لإنهاء ملفٍ عالق في وزارة الداخلية مقابل 10 آلاف دولار. فيقول: “حتى في منزله، وجدنا “بلاك” محفورٌ عليها القاضي وليد ف.”.
“تشبيحات” القاضي المزعوم لم تقف عند حد. فقد وصل الأمر به، وذلك واردٌ في أحد التسجيلات، للادعاء بأنّ التقارير الأمنية لاستخبارات الجيش تصله إلى منزله. تارة ينتحل صفة مستشار وزير عدل، وطوراً يقول إنّه مستشار بري نفسه. وبذلك، بات “القاضي المعجزة”. فنجح طوال هذه السنوات، إلى أن “طُلعت الريحة”، بحسب تعبير أحد القضاة. ويقول لـ”الأخبار” إنه “اكتُشف لاحقاً أنّه محتال، فصدر قرار في عين التينة يقضي بمنعه من الدخول. وترافق ذلك، مع إشاعة القاضي منتحل الصفة، أنّه سيترك سلك القضاء، لأنه تعب من كثرة السفر ويُريد الاستقرار، وأنّه سيعود إلى مهنة المحاماة. لكن تبيّن أن القاضي الدولي ليس سوى محامٍ متدرّج!”.
تجدر الإشارة إلى أن أحد ضحاياه عمد إلى تصويره لمدة طويلة لإثبات المبالغ المالية التي سرقها منه. وإثر إخلاء سبيله، علمت “الأخبار” أنه جرى التقدّم بشكوى لدى التفتيش القضائي، يزعم فيها المشتكون أن إخلاء سبيله تم بسبب صلة القرابة العائلية التي تربطه بموظفة عدلية.