أطلت ذكرى الاستقلال الـ72 بأسوا حللها. وطن مشلّع. مؤسسات فارغة ومفرّغة. رياح تعصف بنا وسط عجز تام عن مواجهتها. وباستثناء تضحيات الجيش اللبناني والأجهزة الأمنية الشرعية التي تبذل أقصى ما يمكنها بالإمكانات المتوفرة لكان انهار ما بقي من الهيكل على رؤوس الجميع.
في الذكرى الـ72 للاستقلال، صار نادراً أن تجد لبنانياً مؤمناً باستقلال وطنه، رغم أن الوضع اليوم ليس أسوأ من استقلال 1989. يومها أطلّ علينا رئيس للجمهورية من بين ركام الحروب العبثة والأطماع الشخصية، ووعدنا بأنه لن يسمح لنفسه “بلحظة راحة، الا وقد استتب الأمن اللبناني الشرعي في آخر بقعة من أرضنا، إلا وقد جمعت آخر قطعة سلاح خارج القوات المسلحة الشرعية”.
أدرك رينه معوّض، الابن البارّ للمدرسة الشهابية أن “الهموم اللبنانية أكثر من أن تحصى، ولكن ثمة أولويات لا بد من التركيز عليها. فالمسألة الأساسية هي جمع أجزاء الوطن، جزءًا جزءًا، واستعادة السيادة عليها، وإحلال السلام فيها”.
الإنماء والنهوض الاقتصادي وتحقيق الازدهار والرفاهية للبنانيين أمور أكثر من ضرورية للبنانيين، لكن الأساس يبقى دائماً في استعادة السيادة على كل أجزاء الوطن ورفض بقاء أي سلاح خارج الشرعية. من دون تحقيق ذلك، يبقى أي نشاط اقتصادي كمن يبني منزله على الرمال ومن دون أساسات.
ومن الأساسات التي لا بدّ منها، شكّلت هيبة الدولة همّاً أساسياً لاستعادة ثقة المواطنين بعد 15 عاماً من الحروب المضنية حيث انكفأت الشرعية لمصلحة الميليشيات والجيوش الغربية. لكنّ رينه معوّض استطاع في 17 عشر يوماً أن يمنح اللبنانيين بارقة أمل بأن الدولة لا تزال موجودة، وتحديداً عبر رجالاتها الذي كان معوّض الصورة الأصدق والأدق عنهم. كان الرئيس الذي انتظره اللبنانيون، القوي بتمسّكه بالدستور ورفضه لأي مساومة عليه وعلى منطق الدولة.
ثمة من يتحدّث اليوم عن “الرئيس القوي” بخلفية مواصفات وعراضات لا تمت للحقيقة بصلة. فقوة الرئيس ليس في عدد كتلته النيابية ولا في قدرته على الحشد الجماهيري. قوة رئيس الجمهورية تكمن أولا وأخيراً في قدرته على أن يكون رأس الدولة، وميزة الرأس أن يتمتّع بالحكمة والعقل الوازن والصلابة.
في 22 تشرين الثاني 1989 لم يكن مقدّراً للبنان أن ينهض من تحت الرماد فاستشهد رينه معوّض في ذكرى الاستقلال، ومعه الحلم بقيامة لبنان من كبوته وبعودة الدولة.
وكأن ذكرى الاستقلال اللبناني تأبى أن تقبل بأقل من معمودية الدم، ولم تكتفِ بدماء رينه معوّض ورفاقه، فسقط بعدها بـ17 عاماً، وتحديداً في 21 تشرين الثاني 2006، الوزير بيار الجميّل.
ولعلّ القاسم المشترك الأبرز بين الرئيس الشهيد والوزير الشهيد أنهما كان يمنحان اللبنانيين أملاً بمستقبل أفضل. الرئيس معوّض شكّل بارقة الأمل بدولة منشودة بعد 15 عاماً من الحروب والاحتلالات والميليشيات، وبيار الجميّل مثّل الأمل بعودة العنفوان والإيمان بأن لبنان سينتصر مهما بلغت الصعوبات.
نستعيد ذكرى الاستقلال، كما ذكرى معوّض الجميّل، وفي العين دمعة والقلب غصّة بسبب غياب رئيس للجمهورية، ومحاولات نحر الجمهورية على مذبح الحسابات والأطماع الشخصية، كما على مذبح المصالح الإقليمية والدولية.
في الذكرى الـ72 للاستقلال كل ما هو مطلوب لنهوض طائر الفينيق من جديد: رئيس للجمهورية يحمل خطاب رينه معوّض وعزيمته لتنفيذه، وسياسيون على مثال بيار الجميّل مستعدون في كل لحظة لأن يستشهدوا في سبيل لبنان من دون التنازل عن أي من الثوابت عوض أكثرية قائمة تنتظر إشارات من الخارج لتقرّر ماذا تفعل!