لم يعد خافياً تراجع معظم القطاعات الاقتصادية والمالية خلال العام 2015 مقارنة بالسنوات الماضية، وبشكل ملحوظ. لكن القطاع العقاري يبقى الأهمّ من حيث امتداده على نشاط القطاعات الأخرى وهو الذي كان يشكل حوالي 20 في المئة من الناتج المحلي فتراجع إلى حوالي 18 و17 في المئة في ظل الجمود المسيطر على النشاطات الاقتصادية. لقد كشفت مناقشات الحوارات التي اقيمت على هامش مغرض دريم الذي نظم مؤخراً في البيال أن النشاط العقاري تأثّر لكن من دون تراجع الأسعار على الفئات من الأبنية.
في النتائج الاقتصادية فقد تراجعت المبيعات العقارية خلال الفصول الثلاثة الماضية من العام الحالي 2015 من حوالي 6.7 مليارات دولار في العام 2014 إلى حوالي 5.7 مليارات في الفترة ذاتها من العام الحالي بما نسبته حوالي 14 في المئة، وبما قيمته حوالي المليار دولار. كذلك تراجع حجم تسليمات الإسمنت بحوالي 14.6 في المئة. وهذا يظهر أيضاً من خلال تراجع تسليمات الاسمنت خلال الفترة حوالي 12.7. ومع ذلك فإن أسعار المبيعات العقارية بقيت ثابتة مع توقعات لخبراء بأن الأسعار لم تكن واحدة على كل فئات الشقق ومستوياتها، حيث تراجعت الاسعار على بعض الشقق الفخمة لتراجع الطلب العربي والخليجي، مع استمرار ثبات أسعار الشقق المتوسطة والصغيرة والتي تقوم على عناصر الشباب واستمرار التسليفات السكنية التي تشكل القسم الأكبر من التسليفات الفردية، إضافة الى القروض التي تستفيد من حوافز مصرف لبنان للقروض المدعومة الفوائد والتي ذهب قسم كبير منها للتسليف من أجل السكن، حيث باتت التسليفات السكنية تشكل حوالي 52 على 54 في المئة من القروض المدعومة الفوائد والفردية.
وأوردت ورقة لرئيس قسم الأبحاث في بنك عودة الدكتور مروان بركات حول القطاع أن الانعكاسات الاقتصادية على قطاع البناء كانت محدودة في بعض الجوانب. ومما جاء في دراسته حول القطاع: «إن القطاع العقاري وقطاع البناء اللذين يشكلان سوياً نسبة 20 في المئة من الاقتصاد اللبناني أي من الناتج المحلي الإجمالي بشكل لافت هذه السنة في ظل التباطؤ الاقتصادي العام، حيث يتوقع مصرف لبنان أن يكون النمو صفراً في المئة هذه السنة، في حين خفض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تقديراتهما للنمو إلى 2 في المئة، في ظل انكماش معظم مؤشرات الاقتصاد الحقيقي هذا العام. هذا التباطؤ السائد في سوق العقارات لا يعني أن النشاط معدوم، إنما يأتي في سياق المناخ السياسي العام السائد محلياً وإقليمياً وتأثيره على مدى قابلية المشترين على إتمام عمليات شراء».
الواقع أن القطاع العقاري اللبناني يشهد في الآونة الأخيرة تراجعاً في النشاط لا سيما في ضوء تلبّد المناخ السياسي المحلي العام وتداعيات الأزمة الإقليمية، لاسيما السورية على ثقة المستثمرين والمشترين. وقد أثّر ذلك على الطلب من قبل المستثمرين العرب أو حتى المغتربين اللبنانيين في حين يُبقي المشترون اللبنانيون المقيمون السوق العقارية متماسكة نسبياً. في هذا المناخ، سجل انخفاض في معاملات البيع العقارية بنسبة 13 في المئة خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2015.
في المقابل، على مستوى العرض، تراجعت مساحات رخص البناء الممنوحة بنسبة 13 في المئة خلال الأشهر التسعة الأولى من العام 2015 بموازاة انخفاض في تسليمات الإسمنت بنسبة 14 في المئة خلال الفترة ذاتها. وبما أن المقيمين يشكلون المحرك الرئيسي للسوق العقارية في الوقت الحاضر، فإن المبيعات العقارية للمساحات الصغيرة والمتوسطة الحجم والعقارات خارج بيروت هي التي تحدّد حالياً اتجاهات العرض بشكل عام. فالمشاريع العقارية الجديدة أقل في بيروت مما كانت عليه قبل بضع سنوات وذلك لمصلحة كل من جبل لبنان والجنوب. عليه، فقد تراجعت حصة بيروت من إجمالي رخص البناء الممنوحة إلى 7 في المئة فقط في العام 2014 مقابل 18 في المئة في العام 2007، كما تراجعت حصة بيروت من إجمالي قيمة المبيعات العقارية من 40 إلى 25 في المئة خلال تلك الفترة.
يجدر الذكر أن الانكماش في أحجام السوق لم يتواكب مع انخفاض مماثل في الأسعار. إن ما يدعم قطاع العقارات في هذه الظروف الصعبة هو شبه غياب فقاعة عقارية في قطاع العقارات، ما يحدّ من انخفاضات الأسعار. فلم تنخفض أسعار العقارات بشكل لافت في الإجمال خلال الأعوام القليلة المنصرمة، على الرغم من الظروف غير المؤاتية نسبياً لحركة الاستثمار العقارية منذ عام 2011. الواقع أن أسعار العقارات في السوق اللبنانية تعرف بنيوياً منحى تدرجياً مطرداً أي أنها ترتفع في حركة تصحيحية صعوداً ثم تعود لتستقر في فترة التباطؤ حتى تستوعب السوق ديناميكيات الأسعار الجديدة كلها، لكنها لا تتراجع بشكل لافت. إن الأسباب الكامنة وراء هذا المنحى غير النمطي نسبياً ثلاثة: أولاً: الطلب الحقيقي غير المضاربي في سوق يخيّم عليها طابع الاستخدام الشخصي، حيث إن المضاربات لا تتجاوز 20 في المئة. ثانياً: الرافعة الاقتراضية المتدنيّة لدى المقاولين الذين يعتمدون على إمكانياتهم الذاتية أكثر من اللجوء الى الاستدانة. ثالثاً: ندرة الأراضي المتوافرة بشكل عام والتي تدعم بشكل عام أسعار الشقق.
في ما يتعلق بآفاق السوق العقارية في لبنان فهي ترتبط بشكل رئيسي بتطور الأوضاع الداخلية والإقليمية. فعلى الرغم من العوامل البنيوية الداعمة للأسعار العقارية في لبنان، إلا أنه ليس من المتوقع تحقيق وتيرة تصاعدية ملحوظة في الأسعار نظراً لوجود مخزون لافت من العقارات غير المبيعة والتي ترخي بثقلها على سوق لم تعد في وضعية بخسة، كما كان الحال في منتصف العقد الماضي. عليه، يبدو أن مرحلة شبه ثبات أسعار العقارات قد تمتد على حقبة أطول نسبياً بشكل عام في سوق تُعَدّ اليوم ملائمة للمشترين (buyer›s market) وبغياب العوامل الجذرية القادرة على كسر حلقة الجمود السائدة في السوق العقارية بشكل عام.