كل المؤشرات تدل على أن الرئيس سعد الحريري أخذ قراره بتأييد النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، وأنه جدي في عرضه وطرحه. هذا ليس عرضا للمناورة وإنما للتنفيذ، وتبقى مسألة ما إذا كان قادرا على تنفيذ ما يتجاوز قدرته وما ليس حكرا عليه وحده… الحريري انتقل إلى مرحلة “التسويق والتبرير” لموقف خالف كل التوقعات وفاجأ الحلفاء قبل الخصوم، ونقل البحث إلى مراحل متقدمة في الملف الرئاسي في مناخ جديد تختلط فيه علامات الصدمة والدهشة والارتياح.
أسئلة سياسية كثيرة تحاصر الحريري بشأن هذا الخيار الذي يشكل نقلة نوعية ومغامرة سياسية ويراه البعض قرارا جريئا ومقداما، فيما يراه آخرون قرارا متسرعا ومتهورا… وإذا كان السؤال البديهي الذي طرح ويلاحق الحريري هو لماذا أخذ هذا الخيار وسلك هذا الطريق وقرر السير بـ”سليمان فرنجية” رئيسا؟!
استنادا إلى ما يبلغه الحريري إلى حلفائه وأصدقائه شارحا وموضحا ومطمئنا… واستنتاجا مما يجري تداوله وتناقله
في أوساط “المستقبل”، فإن الأسباب والعوامل و”الحوافز” الدافعة إلى هذا الخيار هي:
١ ـ “الأزمة الحرب” في سورية منذ التدخل الروسي أخذت اتجاهات واكتسبت أبعادا جديدة زادت الأزمة تعقيدا وتهدد بإطالة أمدها… فالتسوية السياسية لم تنضج ظروفها ولم تُرسم خطوطها بعد، والحرب على الإرهاب طويلة بعدما ثبت أن الضربات الجوية لا تكفي وأن التدخلات البرية غير مطروحة… ومجمل هذا الوضع يدفع في اتجاه التكيّف اللبناني مع أزمة سورية طويلة وفك الارتباط معها وعدم الرهان عليها وعدم الحاجة إلى انتظار نهاياتها لتمرير تسوية مرحلية.
٢ ـ الوضع اللبناني لم يعد يتمتع بمقوّمات الانتظار والصمود لفترة طويلة بعدما وصلت الدولة ومؤسساتها إلى حالة من “التآكل والتحلل والاهتراء”، ووصل الوضع إلى “طريق مسدود سياسيا” وسط تعاظم المخاطر الأمنية والإرهابية، وهذا كله يفرض ترتيبا جديدا للوضع بات حاجة للجميع ويبدأ بانتخاب الرئيس وإعادة عجلة الدولة إلى الدوران.
٣ ـ تيار المستقبل يمر بأزمة داخلية شديدة الوطأة ووصل إلى الوضع الأسوأ له منذ العام ٢٠٠٥ . والأمر لا يقتصر على ضائقة مالية وإنما يتعداها إلى فقدان الحريري قدرة التحكم عن بعد وتكوّن مراكز قوى وتنافس داخل التيار، وتعاظم التطرف في الشارع السني، ومشاكل سوء التفاهم والتواصل مع الحلفاء في ١٤ آذار… ومجمل هذا الوضع يجعل من عودة الحريري إلى السلطة والى رئاسة الحكومة حاجة وضرورة لوقف حالة التفكك والانحدار.
٤ ـ عودة الحريري إلى بيروت والى رئاسة الحكومة غير ممكنة إلا في إطار تسوية سياسية ومعادلة “رئاسة الجمهورية مقابل رئاسة الحكومة”. إذا كان العماد عون الخيار الوحيد المطروح من حزب الله، فإنه مرفوض من تيار المستقبل لأسباب كثيرة، وإذا كان الانتقال إلى “الرئيس التوافقي” متعذرا في ظل وجود عون، فإن فرنجية هو الخيار الوحيد الذي من الممكن أن ينال موافقة حزب الله وأن يفك عقدة عون الذي من الممكن إرضاؤه بـ”جوائز ترضية” بديلا من “الجائزة الكبرى”.
٥ ـ سليمان فرنجية لا مشكلة في تسويقه لدى الحليفين الرئيسيين بري وجنبلاط، خصوصا أنه ينتمي إلى الطبقة السياسية ذاتها المتحدرة من أصول سورية ويمكن التفاهم معه، ولا صعوبة في تسويقه “مسيحيا” بصفته أحد الأقطاب الأربعة تحت سقف بكركي ويُصنف سياسيا وتاريخيا بأنه “متعصب” لحقوق المسيحيين ودورهم. ويحظى بعلاقة جيدة مع مؤسستين أساسيتين: الكنيسة والجيش… وإذا كان العماد عون يشكل عقبة أساسية أمام وصول فرنجية، فإن حزب الله كفيل بحل هذه المشكلة: حزب الله بحاجة إلى تأمين الوضع الداخلي والتفرغ لمعركته الأساسية في سورية، والسيد نصرالله دعا بإلحاح إلى تسوية شاملة داخلية بمعزل عن الوضع الإقليمي وعن الخارج الذي لا نهمّه وليس مباليا بنا.. ومهمة حزب الله اليوم بإقناع عون بفرنجية رئيسا تبدو أسهل من مهمة إقناعه بالرئيس سليمان في العام ٢٠٠٨.
وتقول مصادر صحيفة “الأنباء” الكويتية إن فرنجية قدم للحريري تعهدين: الأول يتعلق بـ «التزام اتفاق الطائف»، والثاني يتعلق بالإبقاء على قانون الانتخابات الحالي (قانون الـ 60). وحسب هذه المصادر، فإن الحريري غير مقيد بالقانون المختلط (الأكثري والنسبي) الذي مشى به على مضض (مثل جنبلاط) للتخلص من قانون اللقاء الأرثوذكسي. وإجهاض احتمال التوافق حوله بين عون وجعجع. ولكن فرنجية كان واضحا مع الحريري في مسألتين، مؤكدا أنه لن يغير موقفه منهما تحت أي ظرف: علاقته مع سورية والمقاومة.
وتفيد معلومات بأن محيطين بفرنجية تواصلوا مع بعض المحيطين بالحريري منذ الصيف الماضي طارحين فكرة التقارب والتفاهم وأخذ الأمر طابع الأسئلة من الفريق الثاني والأجوبة من الفريق الأول. وشمل ذلك التأكيد أن رئاسة الحكومة للحريري ليست مسألة تتقرر من الفريق الآخر، وأن استكشاف الموقف من العناوين السياسية المطروحة في البلد أكد على تطبيق اتفاق الطائف وعلى الحفاظ على الصيغة الحالية للنظام السياسي، وفصل أزمة لبنان عن الأزمة السورية.