تعكس نتائج المالية العامة في الأشهر التسعة الاولى من هذا العام تراجع النشاط الاقتصادي، ولا سيما على صعيد الاستهلاك، إلا أنها تعكس أيضاً صمود الارباح وعدم تأثّرها بشكل جدّي بالاوضاع القائمة، كما تعكس استمرار الحكومة في زيادة إنفاقها من دون قانون للموازنة، ومن دون أي اهتمام بحاجات المقيمين في لبنان، ولا سيما على صعيد الخدمات العامة والبنى التحتية المنهارة
انخفضت إيرادات الحكومة بقيمة 1027 مليار ليرة في الفصول الثلاثة الماضية من هذا العام. كذلك انخفضت نفقاتها بقيمة 444 مليار ليرة. بلغ مجموع المبالغ المقبوضة 10897 مليار ليرة، فيما بلغ مجموع المبالغ المدفوعة 14829 مليار ليرة. وفي الحصيلة، بلغ العجز الاجمالي حتى ايلول نحو 3931 مليار ليرة بزيادة 582 مليار ليرة عن العجز المحقق في الفترة نفسها في العام الماضي، وارتفعت نسبة العجز من مجمل النفقات المحققة من 21.9% الى 26.5%.
بالاستناد الى ملخّص الوضع المالي حتى ايلول، الصادر عن وزارة المال أمس، لا يظهر أن انخفاض النفقات العامّة نتج من سياسة ضبط تعتمدها الحكومة، بل نتج من عوامل خارجية واعتماد سياسة تأخير الدفع ومراكمة الديون «المستترة» لمصلحة البلديات والمؤسسات العامة والموردين والمتعهدين وسواهم. فقد انخفضت التحويلات الى مؤسسة كهرباء لبنان بقيمة 909 مليارات ليرة، أو ما نسبته 40.44%، من 2248 مليار ليرة الى 1339 مليار ليرة، وذلك نتيجة تراجع أسعار النفط العالمية وتغيير طريقة تسجيل التحويلات اعتباراً من مطلع هذا العام، باعتماد المعيار النقدي (أي تاريخ الدفع الفعلي) بدلاً من تاريخ استحقاق الاعتمادات المستندية. وانخفضت أيضاً المدفوعات من حسابات الغير في الخزينة العامة بقيمة 417 مليار ليرة، أو بنسبة 34.14%. وكذلك انخفضت أموال البلديات المسددة بقيمة 57 مليار ليرة… تشير هذه المعطيات الى ان انخفاض النفقات في هذه الابواب الثلاثة وحدها يصل الى 1383 مليار ليرة، ولكن في المقابل، ارتفعت خدمة الدين العام (تسديد الفوائد) بقيمة 269 مليار ليرة، من 4456 مليار ليرة الى 4725 مليار ليرة، إضافة الى تسديد أقساط القروض الخارجية بقيمة 220 مليار ليرة، بزيادة 20 مليار ليرة عن الفترة نفسها من العام الماضي.
تبيّن حسابات وزارة المال أن مجموع المبالغ المدفوعة، في حال تم استثناء التحويلات الى مؤسسة الكهرباء، سترتفع بقيمة 465 مليار ليرة في الاشهر التسعة الاولى من العام الجاري بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي، ما يعني أن الانفاق الجاري ارتفع فعلياً، ليس فقط بسبب تنافي كلفة الدين العام، إلا أن انعكاسات انخفاض أسعار النفط على كلفة استيراد الوقود لمؤسسة الكهرباء امتص جزءاً مهماً من زيادة الانفاق المحققة.
على صعيد الايرادات، تختلط الخلاصات. فمن جهة يظهر تأثير تراجع النشاط الاقتصادي، ولا سيما على صعيد ضرائب الاستهلاك، كما يظهر، من جهة أخرى، تزايد التهرّب الضريبي وتراجع أداء وزارة المال في تحصيل الضرائب المباشرة.
تشكّل الرسوم الداخلية على السلع والخدمات نحو 34.56% من مجمل الايرادات، وهذا النوع من ضرائب الاستهلاك تراجع في الفصول الثلاثة الماضية بنسبة 1.59%، من 3827 مليار ليرة الى 3766 مليار ليرة، علماً بأن إيرادات الضريبة على القيمة المضافة وحدها تراجعت بنسبة 6.15% من 2503 مليارات ليرة الى 2349 مليار ليرة. إلا أن الرسوم على السيارات ارتفعت بنسبة 8.99% من 163 مليار ليرة الى 178 مليار ليرة، وكذلك ارتفعت رسوم الاستهلاك الداخلي للسيارات بنسبة 11.81% من 304 مليارات ليرة الى 340 مليار ليرة، وهو ما يعكس استمرار نمو مبيعات السيارات الجديدة. كذلك ارتفعت الرسوم على المحروقات بنسبة 22.40% من 386 مليار ليرة الى 472 مليار ليرة.
وفي إطار رصد تأثيرات تراجع الاستهلاك على إيرادات الحكومة، يظهر انخفاض الرسوم الجمركية بنسبة 8.01% من 579 مليار ليرة الى 533 مليار ليرة. كذلك يظهر تراجع إيرادات الاتصالات بنسبة 9.76% من 1435 مليار ليرة الى 1295 مليار ليرة.
على صعيد الضرائب المباشرة، ارتفعت إيرادات الضرائب على الدخل والارباح ورؤوس الاموال بنسبة 2.28% من 2376 مليار ليرة الى 2430 مليار ليرة. إلا أن مصدر الزيادة جاء من الضرائب على الرواتب والاجور التي ارتفعت بنسبة 3.44% من 501 مليار ليرة الى 518 مليار ليرة، وكذلك من الضريبة على أرباح الفوائد لدى المصارف التي ارتفعت بنسبة 7.22% من 526 مليار ليرة الى 564 مليار ليرة. في المقابل تراجعت الضريبة على الارباح بنسبة 0.37% من 1067 مليار ليرة الى 1063 مليار ليرة. وكذلك تراجعت الضريبة على رؤوس الاموال المنقولة بنسبة 0.90% من 234 مليار ليرة الى 232 مليار ليرة.
ويعكس تراجع إيرادات الضرائب على الاملاك التراجع الحاصل في العمليات العقارية، إذ تراجع هذا النوع من الضرائب بنسبة 6.98% من 933 مليار ليرة الى 868 مليار ليرة، علماً بأن الضريبة على الاملاك المبنية ارتفعت بنسبة 8.70% من 186 مليار ليرة الى 202 مليار ليرة، في حين تراجعت الرسوم العقارية (رسم التسجيل) بنسبة 12.76% من 628 مليار ليرة الى 548 مليار ليرة.
على أي حال، حققت المالية العامة حتى ايلول فائضاً أولياً بقيمة 1013 مليار ليرة، وهو مؤشر مهم يقوم على احتساب مجمل الايرادات بالمقارنة مع مجمل النفقات من دون خدمة الدين العام، ما يعني أن الحكومة تجبي من المقيمين في لبنان مبلغاً بهذا القدر أعلى مما تنفقه عليهم، وهذا دليل حاسم على أن مشكلة العجز تكمن في الدين العام الذي بات منذ زمن طويل القناة الرئيسة لإعادة توزيع الثروة نحو جيوب الاثرياء وأرباح المصارف.