ما زال هاجس العامل الأجنبي يؤرق شريحة واسعة من اللبنانيين، شعباً ومسؤولين سياسيين. لكن لكل من هؤلاء نظرته الى هذا الملف، فالبعض ينطلق هاجسه من الوضع الأمني، والبعض الآخر من المزاحمة الاقتصادية، وآخرون ينطلقون من مواقف عنصرية، وبعض قليل، ينطلق من هواجس الحقوق الانسانية والقانونية، لتأمين التوازن بين حقوق العمال وأرباب العمل.
بالأمس جهدت اتحادات وجمعيات حقوقية وإجتماعية من أجل تأسيس نقابة للعاملات الأجنبيات في لبنان، فقوبلت الفكرة بهجوم واسع وشرس من قبل العديد من المنظمات والأحزاب وحتى من بعض المسؤولين السياسيين، الذين أنكروا حق التنظيم النقابي للعاملات الأجنبيات، دون ان ينكروا حق اصحاب العمل في استغلال العاملات، الا اذا استثنينا الكلام الانشائي المعسول. الخطوة التي تحمي العمال الاجانب رفضت، واليوم، تعمل وزارة العمل على تنفيذ مشروع يحمي “مِن” العمال الأجانب، عبر اصدار بطاقة “ذكية” للعمال والعاملات الأجانب، تعطى مع اجازة العمل لكل عامل على الاراضي اللبنانية، في كل الفئات ولكل الجنسيات. ستسهم البطاقة وفق ما أعلنه وزير العمل سجعان قزي في “مراقبة كل عامل اجنبي على الاراضي اللبنانية. عبر معرفة مكان العامل وموقعه في مجال العمل، وما اذا كان يتم العمل بالوظيفة التي على اساسها اعطيت الاجازة”.
البطاقة قد ترضي غرور طرف، وتخفف من هواجس طرف آخر. فالتجاوزات التي يقوم بها بعض الأجانب تثير الكثير من الأسئلة في بلد يفتح حدوده أمام الجميع، ولا يطبق فيه القانون. لكن في المقابل، تسأل “أندريا” العاملة الكينيّة، التي تعمل في الخدمة المنزلية في لبنان منذ نحو 5 سنوات، عما اذا كانت هذه البطاقة ستضمن عدم تشغيلها لساعات طويلة وفي اعمال شاقة، أو عدم تشغيلها في منازل أخرى غير المنزل التي اتت للعمل فيه. وتشير أندريا لـ “المدن” الى ان “العاملات لا يعارضن اي اجراءات إدارية يقوم بها لبنان، شرط ان تحافظ تلك الاجراءات على حق العاملات وتضمن لهنّ عملاً لائقاً وبشروط انسانية وقانونية صحيحة. وما عدا ذلك، فهو شأن إداري لبناني، علينا التقيد به”.
في هذا الصدد، أكّد قزي لـ”المدن” أنّ البطاقة تراقب عبر الأقمار الاصطناعية وتحدد مكان العامل. ما يعني ان العامل بات مراقبا، لكن عمله غير مراقب، وسوء معاملته غير مراقبة. بمعنى آخر، ان الـ “6 مليارات ليرة” التي سيكلفها “الجزء الأول من المشروع”، والتي ستدفعها الدولة اللبنانية، ستكون لمراقبة مكان العمل ليس الا. وهنا يمكن استحضار عملية كشف الوزارة لتشغيل فنّيين أتراك على باخرة الطاقة التابعة لشركة كارادينيز التركية، على اساس انهم عمال تنظيفات، وفي هذه الحالة، يمكن للبطاقة الذكية تحديد مكان عمل هؤلاء، لكن كيف ستحدد ماهية عملهم؟
وبما ان للمشروع أجزاء لاحقة، ستحدد “وفقاً للمعطيات التي ستظهرها المرحلة الأولى”، على حد تعبير قزي، يصبح من الطبيعي التساؤل عن ضمانات نجاح البطاقة في حماية العمال كما ارباب العمل وهواجس السياسيين. من الواضح ان لا شيء يضمن هذا الجانب، فالوزارة التي تمثّل السلطة السياسية ذهبت لتنفيذ خطة تفيد في تغطية الجانب الأمني من قضية العمال الأجانب، دون التطرق الى زوايا أخرى. لكن هل فعلاً الجانب الأمني مغطى بالكامل؟
لا يمكن ارضاء غرور البعض، أو تغطية تقصير الدولة من الناحية الأمنية بمجرد مراقبة العمال الأجانب. فالأمن يُضبط بخطط أمنية واضحة، وببسط سيطرة الدولة على أراضيها وحدودها، وليس بمراقبة عمال يهددهم الخطر الأمني ذاته الذي يهدد اللبنانيين، ويهددهم خطر العنصرية التي لا تراقبه لا بطاقات ذكية ولا غبية.
مبالغ اضافية غير محددة ستتكبدها الدولة في المراحل اللاحقة للجزء الأول من المشروع الذي سيبدأ العمل به مطلع العام المقبل. وبرغم ذلك، لا يقدّم الاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين اي انتقادات لهذه الخطوة، علماً ان الإتحاد كان المبادر الى اطلاق مشروع تأسيس نقابة للعمال الاجانب. ومع مواجهة السلطة لهذا المشروع، وابتكارها مشروع مراقبة مجهول المعالم، يبدي الاتحاد على لسان رئيسه كاسترو عبد الله، ترحيبه بمشروع الوزارة هذا، اذا كان المشروع يؤمّن مصلحة العمال ويفيد الوزارة والدولة. ويلفت عبد الله النظر خلال حديث لـ “المدن، الى ان “الوزارة لم تتواصل مع الاتحاد في ما يخص مشروع البطاقة الذكية”.
من جهة أخرى، يتخوّف عبد الله من “المراوحة”، أي من دفع المبالغ من دون تحقيق نتائج ايجابية، خاصة اذا اخذ اصحاب العمل البطاقة من العمال، على غرار ما يحصل مع جوازات السفر وباقي الاوراق الثبوتية. ومع ان قزي يؤكد ابقاء البطاقة مع العمال، ومحاسبة من يخالف هذه التعليمات، الا ان الواقع لا يشي بإمكانية مراقبة كل فرد على الاراضي اللبنانية. ويعطي عبد الله مثالاً حول “وضع البطاقة في خزانة، او في المنزل عموماً، في حين ان صاحب العمل يمكنه استغلال العامل عبر اخذه الى مكان آخر، والأجهزة ترى أن البطاقة في مكان محدد، بينما لا ترى أن العامل يعمل في مكان آخر”. وعليه، لا يرى عبد الله أنّ هذه الخطوة هي الخطوة الأمثل، لكنه يفضّل الانتظار حتى ظهور النتائج، مع اعلان بادرة حسن نية تجاه المشروع.
دائماً تتعامل الدولة مع ملف الأجانب من ناحية أمنية، غير ان معالجة هذا الجانب لا تكون بالطرق المفيدة والفعالة. فالتجربة اللبنانية الرسمية مع الفلسطينيين والسوريين وعمال المنازل، تظهر ان الحلول دائماً تكون قاصرة عن معالجة الملفات الأمنية والانسانية. فالفلسطينيون يُحشرون في المخيمات ويمنعون من العمل تحت حجة التوطين، والسوريون تحت حجة مزاحمة اليد العاملة المحلية، وعمال المنازل من جنسيات مختلفة، تحت حجة هروبهم وسرقة مستخدميهم وما الى ذلك، والجميع ايضاً متّهمون بالإخلال بالوضع الأمني. أما أجهزة الدولة الموكلة بالملفات الامنية او تلك الموكلة حماية اليد العاملة اللبنانية والانتاج اللبناني، فهي عرضة للفساد الاداري وللخرق الأمني. و”فشة الخلق” تكون بالأجانب.