Site icon IMLebanon

هل يقطع بوتين الغاز عن تركيا؟

gazprom-gas-pipe
جاسم عجاقة

مما لا شك فيه أن إسقاط الطائرة الروسية على الحدود السورية–التركية، لن يمرّ مرور الكرام. وإذا كان الردّ العسكري الروسي سيقتصر على تعزيز الوجود العسكري الروسي في سوريا، إلا أن الردّ الاقتصادي قد يكون أقسّى مع قطع الغاز الروسي عن تركيا وضرب الإستثمارات الأجنبية المباشرة.

إن استخراج الطاقة الأحفورية (النفط، الفحم، والغاز الطبيعي) يتبع منحى على شكل جرس يُدعى منحنى هوبارت (Hubert). أي أن استخراج الطاقة يزداد مع الوقت حتى بلوغ القمة، ومن ثم يعود إلى الإنخفاض قبل أن يصل إلى مرحلة النضوب. وتمكن العلماء من تقدير تاريخ ذروة الإنتاج النفطي، والتنبؤ بتاريخ حدوثه في عدد من البلدان، منها الدول النفطية خارج “أوبك” حيث أن إنتاج النفط في هذه الدول سيبدأ بالإنخفاض ابتداءً من العام 2036. لكن نضوب الغاز يبقى أبعد في الوقت، فمثلاً في حال الكويت ينضب النفط في العام 2131 والغاز في العام 2220. أما في قطر فيُتوقع نضوب الغاز فيها في العام 2829 ما يُفسر الدور الجيوسياسي الذي تلعبه حالياً. وهذا ما يدفع الدول الى وضع إستراتيجيات على الأمد البعيد.

تحتل روسيا المرتبة الثانية عالمياً بعد إيران من ناحية إحتياط الغاز الطبيعي مع إحتياط يُقدّر بـ 32.6 تريليون م3 (17.4% من إحتياط العالم). ومن ناحية الإنتاج تبقى روسيا في المرتبة الثانية وراء الولايات المتحدة الأميركية. وما يجعل روسيا في المرتبة الثانية في الإنتاج هو نقص الإستثمارات التي تُعاني منها روسيا منذ تقهقر الإتحاد السوفياتي. وبلغ التصدير الروسي من الغاز الطبيعي 188 مليار م3 في العام 2014 وإحتلت بذلك المرتبة الأولى أمام قطر. ومن أهم البلدان التي إستوردت الغاز الروسي، يُمكن ذكر بلدان أوروبية مع 121 مليار م3 (المانيا 38.5، إيطاليا 21، بلجيكا 10 مليار م3…) وتركيا مع 27 مليار م3 ودول الإتحاد السوفياتي سابقاً مع 39.8 مليار م3. وبحسب الإحصاءات (يوروستات)، ثمانية بلدان أوروبية تعتمد بشكل أحادي على الغاز الروسي وخمسة بلدان تعتمد على الغاز الروسي بنسبة أكثر من 50%، أربعة بين 20 و50%، وبلدان أقل من 20% وعشرة بلدان لا تعتمد أبداً على الغاز الروسي.

ويُشكل إستهلاك الغاز أكثر من 20% من الإستهلاك العالمي من الطاقة. ويستهلك العالم 3350 مليار م3 سنوياً منها 500 مليار م3 يستهلكها الإتحاد الأوروبي. وهذا يعني أنه ومع سعر 7 دولار لكل 118.3 م3 من الغاز، تبلغ فاتورة الإتحاد الأوروبي 198 مليار دولار، منها 8 مليارات لروسيا. وهذا الأمر غير مقبول بالنسبة لقيصر روسيا خصوصاً أن التوقعات هي بزيادة الإستيراد الأوروبي من الغاز بنسبة 71% في 2025، و74% في العام 2030 وهذا يُشكل ثروة مالية لن يتخلى عنها بوتين لقطر أو لأي دولة أخرى.
عقب الأزمة الروسية الأوكرانية في العام 2009 والتي أدّت إلى وقف الغاز الروسي إلى أوروبا، عمدت هذه الأخيرة إلى البحث عن مصادر جديدة غير روسيا. وكانت الفكرة بإستيراد الغاز من قطر بحكم أن عام نضوب الغاز في قطر بعيد جداً والقدرة الإنتاجية لهذه الدولة كبيرة. ورفْض نظام الأسد السماح بمرور خط غاز من قطر إلى أوروبا عبر سوريا إلى تركيا وبلغاريا ومن ثم إلى الدول الأوروبية، شكّل نقطة تحوّل في الأزمة السورية وأعطاها الأبعاد التي تعيشها اليوم.

وخطة بوتين هي بمنع أي تصدير للغاز من الشرق الأوسط إلى أوروبا لكي يتسنّى لروسيا السيطرة على السوق الأوروبي. وكانت روسيا قد وقّعت مع تركيا عقد لتمرير أنبوب غاز من روسيا عبر البحر الأسود إلى الأراضي التركية ومن ثمّ إلى أوروبا وذلك لتفادي أوكرانيا إذا أمكن. وبالفعل تمّ بدء العمل بهذا الأنبوب بعدما تمّ إلغاء المشروع القديم والذي ينص على تمرير هذا الأنبوب مباشرة عبر بلغاريا. وهدف روسيا (كما يُظهره الرسم البياني) إيصال الغاز إلى أوروبا عبر طرق عدة لكي لا تكون روسيا رهينة سياسة بلد معين مثل أوكرانيا.
بالطبع مع إسقاط الطائرة الحربية الروسية من قبل تركيا، نرى أن روسيا سترد إقتصادياً على تركيا بحكم أن الرد العسكري مُكلف ونتائجه قد تكون كارثية.

والأهم في الأمر أن تركيا تستورد 60% من غازها من روسيا ولها علاقات إقتصادية كبيرة مع روسيا. وإذا كان فرض عقوبات على تركيا من قبل روسيا سيُخسّر روسيا الكثير من الأموال (حجم التبادل التجاري يصل إلى 100 مليار د.أ)، إلا أن تركيا ستتضرر بشكل كبير إقتصادياً إذا حرمت من الغاز الروسي، وبالتالي توقف العديد من القطاعات التي تعتمد على هذا الغاز، كما أن قطاعات إقتصادية تركية عدة (السياحة، الزراعة، البناء…) تتعلق بشكل كبير بالسوق الروسية وإذا ما تم إقفال هذه السوق أمام البضائع والخدمات التركية، فمن المتوقع أن يتراجع الاقتصاد التركي بنسبة كبيرة في العام 2016. لكنّ الضربة الأكبر للإقتصاد التركي ستأتي عبر الإستثمارات الأجنبية المباشرة والتي ستهرب حكماً بسبب التصعيد بين تركيا ودولة عظمى كروسيا.

لكن هل يُمكن لروسيا أن تقطع الغاز عن تركيا؟ الجواب ليس بالسهل خصوصاً إذا علمنا أنه ليس لدى روسيا بديلا من السوق التركية لغازها في الوقت الراهن. لكن التاريخ يُخبرنا أن بوتين لم يتوارَ عن قطع الغاز عن أوروبا في العام 2009، وبالتالي فإن تركيا التي لها شهية حرارية كبيرة، ستجد نفسها في شتاء قارص بدون أي مورد للتدفئة. وإذا كان إحتمال إستيراد تركيا الغاز من إيران (ثاني أكبر مورد للغاز لتركيا بعد روسيا) قائماً، إلا أن التقارب الإيراني الروسي قد يمنع إيران من سدّ النقص في السوق التركي. والبديل الثاني للغاز الروسي هو غاز أذربيجيان، لكن هذه الأخيرة تبيع الغاز بسعر مرتفع كما أن روسيا لن تقف مكتوفة الأيدي حيال تزويد أذربيجيان لتركيا بالغاز.

ويبقى القول أنه على الآمد البعيد، تبقى روسيا الخاسر الأكبر من ناحية أن إنخفاض أسعار النفط والغاز وتقلص الأسواق التي تشتري الغاز الروسي، سيُحمّل روسيا خسائر كبيرة. فهل يعمد قيصر روسيا إلى قطع الغاز عن تركيا؟ التاريخ سيخبرنا!