تحلّق مؤشرات وتنهار أخرى وتتغيّر سياسات دول بأكملها تأثراً بأرقام إحصائية تطال أحد القطاعات الإقتصادية، أو ربما ثقة المستهلك أو أي عنصر آخر من شأنه تغيير قواعد السياسات الإنمائية. أما في لبنان، فتمر الدراسات الإحصائية مرور الكرام، فلا يحرّك المسؤولون ساكناً، ولا تترك الأرقام أي أثر في الأسواق. فما قيمة الأرقام الإحصائية إن لم يستعملها متخذو القرار وراسمو السياسات الإقتصادية في وضع الخطط الهادفة الى تحقيق العدالة الإجتماعية والإستقرار الإقتصادي؟
ميرال توتليان مديرة الإحصاء المركزي في لبنان ورئيسة الشراكة الأورومتوسطية في الإحصاء تسلّط الضوء في حوار مع “المدن” على طبيعة العمل الإحصائي وأسباب ضعف الثقة بنتائجه في لبنان.
لطالما دارت علامات إستفهام حول أرقام الدراسات الإحصائية التي تجريها إدارة الإحصاء المركزي، ما سبب ضعف الثقة بالإحصاءات العامة؟
المشكلة الأساسية تكمن في انعدام الثقافة الإحصائية في لبنان، فالجمهور إن لم ير أرقاماً كبيرة ومضخمة يعمد فوراً الى التشكيك بالأرقام الإحصائية، وعلى سبيل المثال عندما حدّدت إدارة الإحصاء معدل التضخم في لبنان بنحو 34.5% بين الأعوام 2008 و2015، لاقت هذه النسبة العديد من الإنتقادات ولم تؤخذ على محمل الجد، رغم أن هذا الرقم قد يهدد بلداً بأكمله، ومرد ذلك أن ثقافة الأرقام شبه معدومة لدى الجمهور. في المقابل عندما نقول إن معدل البطالة بلغ 10% لا يصدقنا أحد، ويعتبرون أن النسبة مخفّفة والبطالة تفوق ذلك بكثير، ولكن هذه نسبة في الدول المتقدمة يمكن ان تزعزع حكومات وتطيح بها.
ما مدى دقة الأرقام الصادرة عن إدارة الإحصاء، وهل من معايير دولية يتم اعتمادها في إنجاز المسوحات والدراسات؟
الدقة في إحصاءات إدارة الإحصاء المركزي تضاهي نظيرتها الأوروبية، فنحن نعتمد المعايير كلها، إضافة الى أن فريق الإحصاء عالي المستوى مهنياً وتقنياً، ونحن نصدر أكثر الإحصاءات دقة في لبنان، ولكن ليست مسؤوليتنا عدم أخذ واضعي السياسات الإقتصادية الأرقام الإحصائية في الاعتبار. أضف الى ذلك أن إحصاءاتنا تعتمد مصدرين للمعلومات وهي البيانات الإدارية والمسوح الميدانية وتتم بمواكبة من صندوق النقد الدولي، لاسيما المؤشر الإستهلاكي الذي يصدر حالياً بصورة شهرية.
لماذا تتعارض أرقامكم مع غيرها من الاحصاءات في ما يخص المؤشر الإستهلاكي وتحديد نسب غلاء المعيشة؟
لأن ما يقوم به الآخرون في ما يخص الأسعار الإستهلاكية ليس إحصاءات دقيقة، فنحن في إدارة الإحصاء المركزي لا نجول على السوبر ماركت أو المحال أو المدارس أو المتاجر وغيرها ونجمع أسعاراً على غرار جمعية حماية المستهلك، بل نعتمد على دراسة ميزانية الأسرة المعتمدة في الدول المتقدمة كل 3 الى 5 سنوات، وهي عبارة عن 3 استمارات الأولى عن الأحوال المعيشية ككل والثانية هي دفتر الإنفاق والثالثة هي دفتر المشتريات، والإستمارة الأولى تطال كل النواحي المعيشية كالأعمار والمستوى التعليمي، والمداخيل ووسائل النقل وكل العناصر الاقتصادية والمعيشية المتعلقة بالأسرة، ومن خلال دفاتر الإنفاق والإستمارات التي توضع بعناية تعمد إدارة الإحصاء والفنيون لديها الى استخراج سلة الإستهلاك كل ثلاث الى اربع سنوات. وبعد استخراج السلة، نقوم بإعطاء كل سلعة أو خدمة، الوزن أي التكرار، وهو ما ينعكس على ما يعرف بالتثقيل، من هنا نكون قد حدّدنا بشكل دقيق النسبة المئوية التي تنفقها الأسرة على أبواب الإنفاق. أما دراسة ميزانية الاسرة فيتم استخدامها لاحتساب خط الفقر، وكذلك لاستخراج المعطيات الأساسية لاحتساب المؤشر الإستهلاكي.
وبالنسبة الى الأسعار نحن نلاحق أسعار العناصر الموجودة في سلة الإستهلاك أي المستهلكة من قبل الأسر في التدوين الذي دونوه بالإستمارات، ونحن نرفع بشكل شهري نحو 65 ألف سعر من خلال 2000 نقطة بيع وليس كباقي الجهات والمؤسسات التي تجول على المحال التجارية وتجمع الأسعار.
لماذا لا يتم الأخذ بأرقامكم الاحصائية كأرقام وحيدة في لبنان، ولا تُعتمد من قبل الجهات الرسمية لاسيما من قبل مصرف لبنان؟
لا أعرف اذا كان مصرف لبنان يعتمد بأرقامه على إحصاءاتنا ولكن هناك العديد من المؤسسات التي تعتمد ارقامنا ومنها وزارة المال، والعديد من المشاريع والخطط تبنى على احصاءاتنا ومنها البطاقة الصحية التي بنيت عام 2005 على أساس احصاء الأحوال المعيشية وميزانية الأسرة والتي كانت قد أظهرت أن 51% من اللبنانيين ليست لديهم تغطية صحية.
لماذا لا تترك أرقام إدارة الإحصاء، أي أثر في الأسواق المالية مهما كانت خطورتها؟ هل يعود ذلك برأيك الى نظرة الجمهور للإدارة كمؤسسة “مسيّسة” تراعي السياسات الحكومية؟
لا تتفاعل الأسواق مع أرقامنا لأن الجهل بالعمل الإحصائي لا يقتصر على فئات معينة من الجمهور بل يشمل المتعلمين والمثقفين، فانعدام الثقافة الاحصائية يسود شرائح المجتمع كافة.
من هنا سنعمد الى شرح الطرق الاحصائية بشكل مفصل للمهتمين والصحافيين قبل الإعلان عن اي أرقام إحصائية جديدة.
وبالنسبة الى اتهامنا بالتسييس، كيف يمكن ان نكون إدارة مسيسة وتابعة للحكومة ونُصدر في الوقت عينه دراسة تبيّن ان 30% من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر و8% يعيشون الفقر المدقع، فأرقام كهذه لا يمكن ان تكون مراعية للحكومة.
تصدر سنوياً من قبل العديد من الجهات المصرفية والإحصائية، أرقام مختلفة لنسب النمو في لبنان، وتكون أحيانا متناقضة في ما بينها، كيف تحدد إدارة الإحصاء مستويات النمو؟
مستوى النمو له تقديراته المرتبطة بالمحاسبة الوطنية، والأخيرة عملية كبيرة جداً ومعقدة، وتستند بشكل أساسي على بيانات المؤسسات العامة التي لا يتم الحصول على جزء كبير منها بسبب تقاعس العديد من الوزارات والمؤسسات، وهنا أدعو من يشكك في أرقامنها من قبل إدارات الدولة الى تلبية طلباتنا من البيانات الإدارية بصورة منتظمة كي يتسنى لنا وضع أرقام دقيقة وشاملة لكل المؤسسات، ولا ننسى أن موضوع السرية في معظم إدارات الدولة يؤخر عملنا كذلك.
لماذا لم نشهد يوماً إحصاءات حول عدد السكان أو نسب الولادات أو الوفيات وطريقة الوفاة وغيرها من الإحصاءات التي تجريها غالبية الدول؟
لأن هناك العديد من العقبات التي تحول دون ذلك في لبنان، ويكاد يكون أخطرها وأهمها عدم تجاوب مديرية الأحوال الشخصية، فحالات الوفاة والولادة على سبيل المثال تتم أرشفتها في دوائر النفوس من دون اي تفاصيل حول الشخص المعني إن كان المتوفي أو المولود (كطريقة الوفاة أو طريقة الولادة) وفي حال تم تعديل وثيقتي الولادة والوفاة يمكن من خلالها ان نصدر مؤشرات اجتماعية كمعدل وفيات الأطفال أو الرضع أو الأمهات وغيرها.
هذه التعديلات على وثيقتي الولادة والوفاة، لا تفرض تكلفة مالية كبيرة، بل تتقدم بنا كثيراً في مجال الاحوال الشخصية، ولكن العوائق غالبا ما تكون متعلقة بمديرية الأحوال الشخصية التي تتذرّع دائما بعدم وجود كادر بشري كبير لديها، او تأخر المكننة وما الى ذلك من الحجج.
وكذلك الامر ينطبق على المسح السكاني ففي كل دول العالم يتم كل سنتين مسح للسكان وآخر للمباني والمؤسسات، أما في لبنان فلا يتم ذلك لأسباب مجهولة وغير دقيقة.