لا تذكر جنان (اسم مستعار) ثمن اللقاح الإلزامي الذي دفعته لطبيب ابنها. لكنها تؤكد ان اللقاح، وفقاً للطبيب، “أفضل من غيره، لأنه لا يسبب عوارض جانبية”، وهذا ما يؤكده الطبيب نفسه، اذ يقول لـ “المدن” ان هناك أنواعاً من اللقاحات “أفضل من غيرها، لذا يكون سعرها أعلى”.
السعر الأعلى الذي يقول عنه الطبيب، هو بيت القصيد، لأن منه تنطلق السوق السوداء في مجال اللقاحات. وأداة تحريك السوق هي اللقاحات الإختيارية التي لا تدعمها الدولة ولا تؤمّنها للمستوصفات والمستشفيات، على غرار اللقاحات الإلزامية، التي تقدمها بشكل عام منظمة الصحة العالمية لعدد من الدول. فاللقاحات غير الإلزامية تقع كلفتها على المريض، في ظل غياب الدولة، وهنا يُفتح المجال امام الطبيب لتسعير اللقاح على هواه، مستفيداً أيضاً من تسجيل رسم معاينة. ويبرر أحد الأطباء لـ “المدن” ان الكلفة المرتفعة “تعود الى طبيعة اللقاحات التي – وعلى عكس لقاحات الوزارة – تحتوي على خلايا ميتة لا يكون لها آثار جانبية، كالتي توزعها وزارة الصحة”. ويضيف ان “لقاح الوزارة يقسم على 10 أطفال، في حين ان اللقاحات التي نقدمها يُخصص كل لقاح منها لطفل واحد”.
أسعار اللقاحات
في العام 2010 أطلقت وزراة الصحة في لبنان البرنامج الوطني للتحصين الشامل. ويستهدف جميع الأطفال المقيمين في لبنان من عمر صفر إلى 18 عاما باللقاحات الأساسية المعتمدة من “منظمة الصحة العالمية”. وترصد وزارة الصحة العامة لهذا الغرض مبلغاً سنوياً يقارب 4 مليارات ليرة لشراء اللقاحات عبر “اليونيسف”. ومن ثم، توزع اللقاحات مجاناً على المراكز الصحية والمستوصفات في مختلف المناطق اللبنانية، والتي بحسب تقارير الوزارة، يبلغ عددها حوالي 860 مركزاً ومستوصفاً. أما هذا العام، فقد صرفت وزارة الصحة 7 مليارات إضافية ليصبح المبلغ الإجمالي 13 مليار لشراء لقاح جديد، بحسب ما تقوله لـ “المدن”، رئيسة برنامج التحصين في الوزارة رندا حمادة.
بالرغم من دعم الوزارة، فإن بعض الأطباء يصرون على إعتماد اللقاحات كطريق لكسب المال. وهؤلاء يحددون الثمن وفقاً لإسم الطبيب وسمعته وشهرته، الطبقة الاقتصادية للمرضى (الزبائن)، مصدر اللقاح… وغير ذلك. وعليه، يتلقى أحد الأطباء (إلتقته “المدن”) بين 30 و40 ألف ليرة ثمن اللقاح، ويصل المبلغ الى حوالي 100 ألف بعد إضافة “بدل المعاينة” كما يقول. ويضيف ان بعض الزبائن الـ “كلاس” يصل ثمن اللقاح المقدم لهم الى ما يفوق الـ100 دولار، ويعلل السبب بأنه يشتري لهم “الأفضل من بين اللقاحات”.
إختيار “الأفضل” وتغيّر كلفة اللقاحات، يُجبر الطبيب الذي تحوّل الى تاجر، على البحث عن مصدر شراء بسعر مناسب، وهذا ما يفرضه قانون التجارة، إذ ان التاجر الجيد هو المشتري الجيّد. وهنا، يلجأ البعض الى المستوصفات والمستشفيات، وصولاً الى “السماسرة في وزارة الصحة” الذين يهرّبون بعض اللقاحات، ويبيعونها للأطباء. واللافت ان البعض “يخترع” لقاحات غير موجودة، ويتقاضى مبالغ مرتفعة، لقاء حقن لمقويات وفيتامينات معينة، تروّج على انها لقاحات فعّالة. ويقول أحد الأطباء لـ”المدن”، ان عدداً من الأطباء أخذ يروج للقاح بعد حرب تموز 2006، على انه “لقاح الحرب”.
مستوصفات السوق السوداء
يروي مصدر طبي لـ “المدن” بعضاً من الأساليب الاحتيالية التي تقوم بها المستوصفات في مجال اللقاحات، فيقول ان “بعض المستوصفات تقدم لائحة وهمية بأسماء 120 مريضاً، فيما اللائحة الأصلية لا تتخطى 20 مريضاً، فيحصل المستوصف على 120 لقاحاً، ويبيع 100 لعدد من الأطباء”. ولأن للسوق السوداء “حكّامها”، يتحكم بهذه السوق “عدد من أصحاب المستوصفات والأطباء، وبعض موظفي وزارة الصحة الذين ينسجون علاقات مع المستوصفات والمراكز الطبية والأطباء”، بحسب المصدر الطبي عينه.
رئيس الهيئة الوطنية الصحية اسماعيل سكرية، أكّد لـ”المدن” أن “حالة من الفوضى تحدث بسبب عدد من موظفي وزارة الصحة بالتواطؤ مع المستشفيات”. ويشرح أن “هناك عدداً من اللقاحات التي توزع مجاناً من قبل وزارة الصحة، تعمد المستشفيات الى بيعها للمرضى. وأيضاً في المطار الدولي، هناك من يأخذ ثمن اللقاح من المسافرين القادمين من الخارج. إضافة الى تحصيل الطبيب من المريض ثمن أعلى لبعض اللقاحات بحجة أن مصدرها سويدي، بينما يكون اللقاح مستورداً من كوريا. إضافة الى قيام بعض المستفيدين في وزارة الصحة بالتواطؤ مع التجار، بالإعلان عن إختفاء لقاح ما من السوق، وتهريبه للتجار لبيعه للأطباء، كما حصل العام الماضي مع لقاح السحايا”. ويرى سكرية ان كل ذلك يحصل “تحت ظل وزارة الصحة، والمسؤولين عن التفتيش”.
وفي السياق، تؤكد حمادة لـ”المدن” عدم قيام الوزارة بالرقابة لأن هذه الحالات “محدودة”. وتنفي بدورها كل ما يُشاع عن تسبب اللقاحات التي توزعها الوزارة بآثار جانبية للأطفال، إذ إنه لا فارق بين اللقاحات التي تؤمنها الوزارة والتي تؤمنها شركات الأدوية. وأضافت أن “أسعار اللقاحات تختلف بحسب بلد المنشأ”.
نفي الوزارة لا يتطابق مع الحالات الموجودة على ارض الواقع. واذا كانت “السمسرات” تغطّي عمليات بيع أدوية الأعصاب من دون وصفات طبية، الا ان الفساد في اللقاحات يرتفع الى مرتبة أعلى في سلم الفساد في القطاع الصحي، لأن الأطفال هم المستهدفون في هذه الحالة. والأصعب، ان هذا الفساد أوجد لنفسه سوقاً شبه منظّمة، ولم يكتفِ بالبقاء ضمن الحالات الفردية.