هل بدأ الإيرانيون يفيقون من وهم الرفاه الاقتصادي القادم؟ هل تمتلك “طهران” المقومات الاقتصادية التي يسيل لها لعاب المصارف العالمية، فتجعل منها ملاذا للاستثمارات العالمية، بعد غياب دام لسنوات جراء العقوبات المفروضة عليها؟ أم أن النظام المصرفي العالمي أصيب بخيبة أمل عندما تعرف عن قرب على وضع الاقتصاد الإيراني ونظامه المصرفي؟
لا تنفصل تلك الأسئلة عن بعضها البعض، فجميعها تعبر في جوهرها عن قضية واحدة يمكن وصفها بـ “إخفاق النظام الاقتصادي الإيراني”، فبالنسبة إلى الإيرانيين الذين يتعرضون لقصف إعلامي مكثف من قبل وسائل الإعلام الرسمية، بأن نهاية العقوبات الدولية المفروضة عليهم ستترجم داخليا في صورة انتعاش اقتصادي، وارتفاع في مستوى المعيشة، وازدهار التجارة الخارجية وتدفق الاستثمارات الدولية لم يتحقق منه شيء، والمسؤولية في ذلك لا تقع على عبء المجتمع الدولي، إنما تقع أولا وأخيرا على عاتق النظام المصرفي الإيراني، فالقيادة الإيرانية ووسائل الإعلام المحلية ترفض أن تطرح على شعبها الحقيقة كاملة، وأن للازدهار الاقتصادي شروطا لا تمتلكها إيران حاليا، وسيصعب عليها امتلاكها قبل عقدين ونيف من الزمان.
ويتطلب ربط طهران بالعالم الخارجي اقتصاديا وتجاريا وماليا نظاما مصرفيا محليا حديثا تفتقده إيران التي تكبدت عملتها نحو 80 في المائة من قيمتها جراء سنوات الحصار، ولن يكون بمقدور الحكومة الإيرانية تحقيق أي نجاح اقتصادي دون أن تقوم المصارف الدولية بالاستثمار في الاقتصاد الإيراني، وهو ما لا يبدو متحققا حتى الآن، إذ من بين كل الشركات الدولية الساعية إلى العودة للسوق الإيرانية بعد سنوات من العقوبات، تعد المصارف الدولية في مقدمة المترددين للقيام بذلك.
محافظ البنك المركزي وفريق من كبار الاقتصاديين والماليين الإيرانيين عقدوا في مدينة فرانكفورت الألمانية اجتماعا رفيع المستوى وشديد الأهمية في النصف الثاني من الشهر الماضي مع نظرائهم الأوروبيين.
وافتتح فاليولا سيف محافظ البنك المركزي الايراني كلمته قائلاً “إن العلاقات على المدى القصير بين إيران والشركاء العالميين لن تكون مثمرة في غياب منظور طويل الأجل للاستثمار في القطاع المصرفي الإيراني”، مشيراً إلى أن بلاده قد اتخذت عديدا من الإجراءات التي تقربها من توفير البيئة الاستثمارية الملائمة للشركات والمصارف الدولية.
وعلى الرغم من ذلك، لم يفلح سيف والكتيبة المرافقة له من الاقتصاديين الإيرانيين في تحقيق الاختراق المطلوب وإقناع المجتمع الدولي بأن الاقتصاد الإيراني مستعد لاستقبال استثمارات دولية ضخمة، والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تحجم تلك المؤسسات المالية العملاقة عن الإقدام على الاستثمار في ايران؟
ويقول لـ “الاقتصادية”، مارتين أوبرين المختص في مجال المصارف، “إن هناك شروطاً للقطاع المصرفي العالمي للقيام بعمليات استثمارية كبيرة وضخمة في دولة من الدول، فالمصارف العالمية لا تقوم بالتأسيس لبنية مصرفية إنما تقوم بتوسيع وتطوير البنية المصرفية الموجودة، شريطة أن تكون حديثة، وهذا لا يتوافر لطهران جراء سنوات طويلة من العقوبات الاقتصادية عزلتها عن النظام المالي العالمي.
وأشار أوبرين إلى أنه يتعين على إيران أن تستثمر أولا بكثافة لرفع مستوى الأداء لمصارفها المحلية ومن ثم تقوم لاحقا المصارف العالمية عندما يصل مستوى الأداء المصرفي لنقطة الجذب بالاستثمار في البلاد.
وتشير لـ “الاقتصادية”، الدكتورة تينا كيلي أستاذة النقود والمصارف في جامعة يورك، إلى نقطة أخرى لا ترتبط بالعوامل الاقتصادية بشكل مباشر لكنها تحد بشكل كبير من رغبة المصارف العالمية الاستثمار في السوق الإيرانية، وتتمثل تلك النقطة المحورية في الجانب القانوني وطبيعة التشريعات المنظمة لعمل الاستثمارات الأجنبية والمصرفية في إيران، حيث تتسم بدرجة كبيرة من عدم الجذب بل والعداء للاستثمارات الدولية سواء كانت مصرفية أو غير مصرفية.
وأضافت كيلي أن “المشكلة تكمن في أن هناك شعوراً عاماً لدى كبار الموظفين في القطاع المصرفي الدولي، بأن الداخل الايراني يشهد صراعا سياسيا حادا ولم تصل البلاد بعد إلى التوافق المجتمعي حول العلاقة بالغرب، ومن ثم فإنه رغم وجود تيار راغب في تحسين العلاقة الاقتصادية مع العالم، إلا أنه تيار غير مهيمن ويواجه تحديات كبيرة من معارضة شديدة الشراسة تسمى في الأدبيات الاقتصادية الإيرانية بالاقتصاديين الوطنيين أو القوميين”.
وأشارت كيلي إلى أنه لا يوجد أي مؤشر حتى الآن على أن البرلمان الإيراني يرغب في تغيير مجموعة القوانين المقيدة والرافضة للاستثمارات الأجنبية، وهذا ما يجعل رؤوس الأموال المصرفية الكبرى غير متحمسة لإيران حتى الآن.
وفي الحقيقة، فإن معظم المصارف الدولية تخشى أيضا من أن يوقعها الإقدام والتسرع بالاستثمار في إيران في شباك العقوبات الأمريكية، فخلال السنوات العشر الماضية فرضت الولايات المتحدة غرامات بنحو 14 مليار دولار على مصارف دولية لكسرها العقوبات المفروضة على إيران والسودان وكوبا.
ولا يزال الشك يساور عديدا من رجال المال في العالم في أن الاتفاق الذي وقع في 14 تموز (يوليو) الماضي بين إيران ومجموعة 5+1 المتعلق بإيقاف سعيها إلى امتلاك برنامج نووي عسكري، يعني نهاية الصراع معها والقبول بها دوليا.
ويخشى مسؤولون في عديد من تلك المصارف أن يتغير المشهد إذا ما وصل إلى سدة السلطة في البيت الأبيض رئيس أكثر صلابة في التعامل مع الإيرانيين، وما قد يسفر عنه ذلك من توتر في العلاقات الاقتصادية الدولية مع إيران.. ليس بالضرورة عن طريق عودة العقوبات بقدر ما يمكن أن يحدث إذا ما تم تجاهل إيران اقتصاديا من قبل المجتمع الدولي، وهو ما سيعني تراجع معدلات الربحية التي يمكن أن تحققها تلك المصارف من استثماراتها في طهران.
ويعتقد بعض الاقتصاديين الإيرانيين ومن بينهم أمير علي الباحث الاقتصادي بأن مشكلة إقامة علاقة صحية بين المصارف العالمية والنظام الإيراني بعد سنوات من الانقطاع “شديدة التعقيد”، وسترتبط أولا وأخيرا بقدرة الاقتصاد الإيراني على أن يطرح نفسه كنظام يتمتع بالاستقرار والقدرة على المنافسة.
ويقول لـ “الاقتصادية”، أمير علي، “إن البنك المركزي الإيراني قام أخيرا بمجموعة من الإصلاحات لتحقيق الاستقرار المالي، ويسعى إلى تبني سياسة مالية أكثر وضوحا واستقرارا، ولكي تعود المصارف الدولية للاستثمار في إيران، كما كان الأمر في عهد الشاه الراحل، فإن الأمر لن يتوقف عند مجموعة من الإصلاحات المالية الجزئية التي يقوم بها البنك المركزي على الرغم من أهميتها، لكن لا بد من عملية إصلاح شامل، وهو الأمر الذي يواجه بمعارضة من شخصيات متنفذة في صنع القرار، تسعى إلى الحفاظ على ما يمكن وصفه بالطابع العسكري والأمني للمنظومة الاقتصادية.
وبالفعل فإن إقدام المؤسسات المالية الدولية والمصارف للاستثمار في إيران يتطلب من طهران استيفاء مجموعة من الشروط والمعايير الدولية، منها على سبيل المثال التصدي لعمليات غسل الأموال وتوفير نسب محددة من الاحتياطيات المالية في المصارف، ولا تبدو طهران قادرة أو راغبة في تحقيق تلك المعايير حاليا”.
وأضاف علي، أنه “بالنسبة إلى عمليات غسل الأموال فإن عدداً من المؤسسات الإيرانية من بينها الحرس الثوري وأجهزة الاستخبارات تمارس تلك العمليات لتمويل المجموعات الخارجية الموالية لإيران، مع ضمان بألا تظهر تلك الأموال ضمن البيانات الرسمية للدولة، أما بالنسبة إلى الاحتياطيات المصرفية فإن تراجع أسعار النفط حاليا أضعف من قدرة النظام المالي الإيراني على الاستجابة للقواعد الدولية المنظمة لعمل المصارف، فيما يتعلق بنسبة الاحتياطيات إلى رؤوس الأموال المودعة، فالمصارف المحلية في إيران تحيا على دعم الحكومة لها.
وتشير البيانات الرسمية الإيرانية إلى أن ما قيمته 26 مليار دولار من القروض المتعثرة قد شل النظام المصرفي الإيراني، وكانت هذه القروض قد منحت للشركات والأفراد الذين يتمتعون بعلاقات وثيقة ومميزة مع حكومة الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد.
وقد استغلت تلك الشركات وهؤلاء الأفراد العلاقة الوثيقة التي تربطهم بنجاد وحكومته، للتحايل على تأجيل السداد ما أدى إلى تراكم الديون عليها، وأصبح عمليا من غير الممكن تسديد ما عليهم من مستحقات مالية للنظام المصرفي الإيراني، دون إعلان إفلاسهم وهو ما قد يؤدي إلى كارثة اقتصادية إن حدث.
وقد أدى هذا الوضع إلى حالة من الركود الاقتصادي الآن، جراء عدم قدرة المصارف التجارية الإيرانية على منح مزيد من القروض، ويشير البنك المركزي الإيراني إلى أن القروض المتعثرة تبلغ حاليا 20 في المائة من إجمالي الأصول المصرفية الإيرانية، وهي نسبة شديدة الارتفاع والخطورة وتؤثر كثيرا في معدلات النمو.
وتعززت مخاوف الاقتصاديين الدوليين والإيرانيين بأن الاقتصاد الإيراني قد دخل دوامة الركود، فالعقوبات الدولية لم ترفع بعد، وأسعار النفط منخفضة، والإنفاق الاستهلاكي للمواطن الإيراني في تراجع، خاصة مع توقع عديد من المواطنين أن تنخفض الأسعار في أعقاب رفع العقوبات.
ورغم أن كثيراً من الاقتصاديين ينبهون إلى أن هذا قد لا يحدث بل قد يحدث العكس تماما، وتأخذ الأسعار في الارتفاع لمستويات غير مسبوقة، قدرت مجموعة من مختصي صندوق النقد الدولي معدل النمو عام 2014 بـ 1.5 في المائة.
ومع ترحيب صندوق النقد بإجراءات حكومة روحاني الأخيرة، لتحفيز النمو الاقتصادي عن طريق زيادة الطلب المحلي، عبر طرح حزمة من سياسات التحفيز المالي، بخفض أسعار الفائدة على القروض الائتمانية، أعرب عدد من الاقتصاديين عن قلقهم من مدلول التغيير في السياسات الإيرانية.
وأوضح لـ “الاقتصادية”، الدكتور ميتشال كراومي، أن القرارات الجديدة قد تبدو إيجابية لتطوير الاقتصاد الإيراني، “لكن علينا أن نأخذ في الاعتبار القرارات السابقة التي تدخل ضمن سياسات التقييد المالي بهدف خفض معدل التضخم الذي بلغ وفقا لإحصاءات رسمية 25 في المائة بينما تشير الإحصاءات غير الرسمية إلى 40 في المائة”.
وأشار كراومي، إلى أن هذه السياسات التقشفية نجحت بالفعل في خفض معدل التضخم إلى 15 في المائة، مضيفاً أن “هذه السياسات لم يمض عليها أكثر من عامين، وتغييرها من النقيض إلى النقيض يعكس حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي، والأخطر غياب رؤية طويلة الأمد حول طبيعة الاستراتيجية الاقتصادية للحكومة، وهذا لا يمكن أن يشجع أي مستثمر أجنبي للقيام باستثمارات كثيفة في إيران، فما بالك بالمصارف الدولية الأكثر حساسية وقلقا من عدم وضوح الرؤية الاستراتيجية والتقلب السريع والدائم في قرارات الانضباط المالي”.
إلا أن تلك الملاحظة لا تعد الوحيدة بشأن حزمة التحفيز المالي التي تبنتها الحكومة الإيرانية أخيرا لزيادة الطلب الاستهلاكي، ومحاولة جذب رؤوس الأموال الدولية والمصارف العالمية، بتشجيعها على الاستثمار في الاقتصاد الإيراني.
وتضمنت حزمة التحفيز المالي ضخ ما قيمته 2.5 مليار دولار في مشاريع عملاقة، وهو مبلغ مالي هزيل مقارنة بالاستثمارات التي تقوم بها حكومات دول أخرى مساوية لإيران، سواء في تعدادها السكاني أو في قدرتها النفطية، كما أنها تضمنت خفض الاحتياطيات المصرفية من 13 إلى 10 في المائة وهو ما أدى إلى تراجع قدرة المصارف الإيرانية على تحقيق الأمان المالي في حال تعرض الاقتصاد الوطني إلى هزة اقتصادية مفاجئة.
واحتوت الحزمة على منح قروض بأسعار مخفضة لشراء العقارات والسيارات إ يرانية الصنع.
وأسهم ذلك في انتعاش صناعة السيارات المحلية، فبعد عقود من تراكم السيارات الإيرانية في مخازن الشركات المحلية المنتجة لضعف الإقبال عليها، نتيجة تراجع المستوى المعيشي للإيرانيين جراء سنوات الحصار، أدت التسهيلات المصرفية بمنح قروض ميسرة حتى حدود 8000 دولار إلى بيع 100 ألف سيارة إيرانية خلال ستة أيام فقط.
وبعيدا عما خلقه ذلك من أزمة في القطاع المروري نتيجة تركز المبيعات في عدد محدود من المدن الكبرى أبرزها طهران، دون أن تكون شوارعها مجهزة لاستقبال هذا العدد الكبير من السيارات، فإنه مثل صفعة مؤلمة لشركات السيارات العالمية التي راهنت على السوق الإيرانية الضخمة والمحرومة منذ سنوات طويلة من السيارات الحديثة.
وراهنت تلك الشركات على أنها ستجد سوقا واسعة النطاق راغبة في استهلاك كميات كبيرة من السيارات الحديثة، إلا أن خطوة الحكومة الإيرانية أسهمت في تخلص شركات السيارات في إيران مما لديها من مخزون متراكم ليست قادرة على تصريفه منذ سنوات، سواء لارتفاع الأسعار مقارنة بقدرة المواطن الشرائية، أو لعدم قدرة طهران على تصدير السيارات إلا للسوق العراقية لانخفاض جودتها.
ومع بيع 100 ألف سيارة خلال ستة أيام حدث تشبع نسبي في السوق يضعف القدرة التسويقية لشركات السيارات العالمية في السوق الإيرانية المحلية مستقبلا، ورأى علي سنجنين الرئيس التنفيذي لبنك أمين الاستثماري، أن التوسع المالي الراهن عن طريق الإقراض لا بد أن يترافق مع سياسة ضريبية توسعية جديدة، وإلا فلن يكون أمام الحكومة غير السير على خطى حكومة أحمدي نجاد السابقة بطبع مزيد من العملة وخفض قيمة العملة المحلية.
خلاصة القول، إنه يحق للمصارف الإيرانية أن ترسم صورة وردية بالإمكانيات الهائلة لممارسة الأعمال التجارية والاستثمار في إيران، لكن شركاءها سينظرون إلى الواقع الاقتصادي، والميزانيات العمومية، والاحتياطيات المالية، والأصول النقدية والعينية المتاحة للمصارف، لاتخاذ قرارهم بالاستثمار من عدمه، ولن يبهرهم بريق الكلمات بقدر ما سيقنعهم صدق الواقع، وهو ما لا يبدو مقنعا للمصارف العالمية حتى الآن.