أمل ناصر
بات من المُسَلَّم به الآن إنتظار إرتفاع عدد اللاجئين المسجلين في ألمانيا كل شهر. الأرقام الاخيرة الصادرة عن المكتب الإتحادي للهجرة واللاجئين في ألمانيا تفيد بأن عدد طلبات اللجوء منذ بداية العام الجاري حتى نهاية أكتوبر/ تشرين الأول، بلغت حوالي 360 ألف طلب، حوالي ثلثها مقدمة من قبل سوريين. ولا يزال الرقم مرشحاً للإرتفاع بشكل كبير نظراً لوجود عدد كبير من اللاجئين ممّن تمكنوا من العبور إلى الأراضي الألمانية، ولم يتقدموا بطلبات لجوء حتى الآن.
التأخير في تقديم طلب اللجوء يعود بالدرجة الأولى للضغط الكبير الذي تواجهه مكاتب تسجيل اللاجئين في مختلف الولايات الألمانية، مما يضطر العديد من مقدمي الطلبات للإنتظار أيام أو أسابيع على أبواب مراكز التسجيل، حتى يتمكنوا من تقديم الطلبات. حتى مع رفع ميزانية اللاجئين من ثلاثة إلى ستة مليارات يورو، تبقى “صدمة” الإرتفاع الكبير في عدد طلبات اللجوء ذات تأثير كبير على السياسة المالية في البلاد.
عند حدوث طفرات، أو ما يسمى بالصدمة “shock” التي تؤثر على السياسة المالية (المتعلقة بالخزينة العامة) لدى أي إقتصاد متقدم- وهي تسبب إختلالاً في الموازنة العامة مما يتطلب رفع الإنفاق- تقوم الحكومات عادة بالخطوة الأسهل، وهي الإستدانة لسد عجز الموازنة وترحيل الديون إلى المديونية العامة التي يتم دفعها لاحقاً (بعد سنوات عديدة) من خلال رفع نسبة الضرائب أو خفض الإنفاق الحكومي. أو قد تقوم الحكومات برفع الضرائب والرسوم وغيرها من مصادر إيراد الأموال من الأفراد والشركات لتمويل ذلك العجز. والضغط الكبير على مراكز اللجوء في المانيا يستدعي إستحداث طرق تمويل لتكاليف إستضافة اللاجئين، مع الأخذ في الإعتبار أن كل هؤلاء الافراد غير منتجين، ما يعني أنهم يستهلكون خدمات لا يتم تحصيل قيمتها من مدخولهم.
عدم وجود الموارد الكافية للتعامل مع العدد الكبير من الداخلين إلى المانيا سواء كانت موارد بشرية أو مالية، كان وما يزال جوهر النقاش حول مدى قدرة ألمانيا على إستيعاب هذا العدد الكبير من اللاجئين في هذا الوقت القصير. حتى وإن كانت ألمانيا دولة غنية فإن تصميم وتنفيذ برنامج حكومي لتحمل نفقات إستضافة اللاجئين يتطلب إجماعاً سياسياً على مصدر التمويل.
تقول وزيرة الخارجية الألمانية انجيلا ميركل دوماً، أن ألمانيا “تستطيع” إستيعاب كل هؤلاء اللاجئين وتنفي في الوقت نفسه عزم حكومتها إقتراح ضريبة جديدة لتمويل نفقات اللاجئين على غرار ضريبة “التضامن”، الزائدة على ضريبة الدخل للأفراد والشركات، والتي تم فرضها من منتصف العام ١٩٩١حتى منتصف العام ١٩٩٢ لتمويل نفقات مشاركة ألمانيا في حرب الخليج، لتُفرض من جديد في أواخر العام ١٩٩٤ وتبقى حتى يومنا هذا تحت شعار تمويل نفقات تطوير ولايات ألمانيا الشرقية سابقاً.
هذه الضريبة كفيلة بشرح موقف ألمانيا المتمثل دوماً في محاولة تمويل النفقات الزائدة على الموازنة العامة، عبر زيادة الإيرادات عوضاً عن الإستدانة ورفع مستوى المديونية العامة التي في النهاية تثقل كاهل الإقتصاد. ويعود نفور الحكومات المتعاقبة من الإستدانة إلى تاريخ المانيا سيئ السمعة مع الإستدانة لتمويل تكاليف حروبها في النصف الأول من القرن الماضي.
ولأن ألمانيا من الدول المتقدمة إقتصادياً فهي لا تعوّل على “المجتمع الدولي” لدعمها مادياً في تحمل تكاليف إستضافة ما لا يقل عن 360 ألف شخص تدفقوا خلال عشرة أشهر إلى البلاد، لا بل ألمانيا هي جزء من المجتمع الدولي الذي يُطلب ويُتوقع منه مساعدة دول كالأردن ولبنان وتركيا في تحمل تكاليف إستضافة حوالي أربعة مليون لاجئ سوري.
يقول وزير المال الألماني “شويبله” صراحة أن التحدي الأكبر في موضوع تمويل اللاجئين هو الخروج بمصادر تمويل لا تتضمن الإستدانة. وبين تصريح شويبله بعدم الرغبة بالإستدانة وتصريح ميركل بعدم الإتجاه نحو فرض ضريبة تضامن مع اللاجئين، يبقى الأمر محط نقاش بين السياسيين والإقتصاديين على حد سواء. فالسياسي لا يريد بالتأكيد فرض أي تكاليف جديدة على دافعي الضرائب حتى لا يفقد جزءً من الكتلة التي تصوت له في كل إنتخابات، وللسبب نفسه لا يريد السياسي الإستدانة. كما وأن السياستين (الإستدانة أو رفع الإيرادات) تلقيان بظلالهما على الوعي الشعبي على انهما تكاليف أو ديون تسبب الغرباء بها، ويؤدي ذلك إلى إرتفاع الحساسية تجاه القادمين الجدد إلى ألمانيا. أما الإقتصادي فهو لا يرى غضاضة في أي من السياستين طالما تم إستثمار الأموال بكفاءة تسمح برد الديون أو تسجيل فائض موازنة في الأعوام المقبلة.
لكن ما يحدث اليوم في ألمانيا هو حديث مبتور عن تكاليف إستضافة اللاجئين مع تجاهل كبير لحقيقة أن المانيا حققت في النصف الأول فقط من هذا العام فائضاً في الموازنة العامة يبلغ ٢١ مليار يورو (1.4٪ من الناتج القومي) وهي المرة الثانية التي يسجل فيها فائض في الموازنة العامة منذ العام ١٩٦٩، وكانت المرة الأولى في نهاية العام ٢٠١٤ بتسجيل فائض قدرة نصف مليار يورو. وفي حين ان المديونية العامة لألمانيا تبلغ ٧٢٪ من الناتج القومي مقارنة ب ٩٢٪ في فرنسا التي سجلت عجزاً يبلغ ٤٪ من الناتج القومي في العام الماضي تتعالى أصوات الإقتصاديين في أوروبا وأميركا لدعوة الحكومة الألمانية للإنفاق وبسخاء على البنية التحتية أو تخفيض الضرائب.
وما ينقص النقاش الحالي عن طرق تمويل تكاليف اللاجئين في البلاد هو الحديث عن المسارعة بإدخالهم إلى سوق العمل وتحويلهم إلى أفراد منتجين، ودافعين للضرائب وقادرين على سد تكاليف إقامتهم، وهذا لا يأتي إلا عبر الإستثمار فيهم كبنية تحتية بشرية ستعود بمردود كبير على الإقتصاد الألماني.