بعض الوزارات والإدارات العامة تحاول اللحاق بركب مكافحة الفساد، فتطلق حملات رقابية وتوعوية، لكن أغلبها يقف عند حدود ملاحقة صغار الفاسدين، أما كبارهم، فعصاة للملاحقة، لأن تركيبة النظام تحميهم. فحملة مكافحة الفساد الغذائي التي أطلقها وزير الصحة وائل أبو فاعور، تقفل الكثير من المصانع والمحال التجارية والملاحم والمطاعم، لكنها قاصرة عن محاسبة كبار التجار. وحملة وزير المال علي حسن خليل التي سطع نجمها لأيام معدودة، أقفل ملفها ولم يظهر أي فاسد كبير، اما المستشفيات، فحدّث ولا حرج.
اليوم يأتي دور وزارة الإقتصاد لتحاول شق طريقها في سكّة مكافحة الفساد. غير أن شقّ هذه السكّة لم يأتِ عبر إصلاحات في بنية النظام، بل عبر محاولات تستند الى تغيير عقلية الفاسد فجأة، وتدعوه بكل محبة الى وقف الفساد وعدم الإستفادة من مزاريب الهدر المفتوحة له بكل حرية، وبكل حماية. وعليه، وقّعت مذكرة تفاهم وتعاون مع جمعية “سكر الدكانة”، تهدف بحسب وزير الإقتصاد آلان حكيم الى تعزيز “الشفافية والإدارة السليمة والمسؤولة”، واعتبر حكيم خلال توقيع المذكرة، الأربعاء، ان “العملية الإدارية الشفافة والأقل فساداً هي التي تكون فيها سيادة القانون حاضرة ويتشارك فيها القطاع الخاص والمواطنون لإعداد ومراقبة القوانين، وتجعل القطاع العام أكثر فعالية وكفاءة وتساهم في تعزيز النمو ودعم التنمية الإقتصادية”.
لكن، اثبتت التجربة ان تغيير النفوس قبل النصوص أمر غير مجدٍ، فالإتكال على “الاجتماعات الأسبوعية الدورية مع كل الاقسام بالوزارة للاستماع إلى آرائهم وأفكارهم وهواجسهم، ووضع وسائل تواصل بين أيدي المواطنين كي يكونوا شركاء في الوزارة من باب الشفافية”… وغير ذلك، لا يمكن ان يبني إدارة حقيقية ما لم يكن هناك قانون واضح ومحاسبة يقوم بها التفتيش المركزي والنيابة العامة المالية ويتحرك الى جانب ذلك القضاة بكل استقلالية. فهذه الخطوات المركزية، ضرورية قبل خطوات المجتمع المدني. فتوضيح النصوص وتعزيز دور الأجهزة الرقابية، يأتي في المركز الأول، لأن الرقابة ستحاسب الفاسدين، وليس المجتمع المدني. والأخير، يقتصر دوره على نوع من “التذكير” والتفاعل بين المواطنين والموظف والإدارة المركزية.
عليه، فإن المذكرة التي وقّعت ستكون هي الأخرى خاضعة لمبدأ ضرورة تحديث القوانين والأجهزة الرقابية، قبل النظر إليها على أنها المخلّص. وفي جميع الأحوال، فإن “سكّر الدكانة” تنظر الى المذكّرة بوصفها مدخلاً للإصلاح الإداري، لأن دور المجتمع المدني بحسب رئيسة الجمعية كارول شرباتي هو “مراقبة وتقييم الأداء، واقتراح الحلول”، وتشير لـ “المدن” ان “الحلول تُطرح على المدى البعيد، لذلك فإن الجمعية ستساهم، الى جانب هذه المذكرة التي ستكون مدتها سنة قابلة للتجديد، في اجراء دورات بين الموظفين والإدارة، واطلاق حملات توعية حول العمل في الادارة وحول اهمية مراقبة المعلومات ومصادرها والى اين تتجه داخل الادارة العامة”. وبالرغم من التفاؤل الذي يلفّ هذه الخطوة، لا تخفي شرباتي أن “تركيبة النظام السائد لا تساعد في حل ازمة الفساد بشكل جذري، فالعلاقات الطائفية في الوظيفة، مثلاً، تساهم في استمرار الفساد. لكن نحن هدفنا المحاولة، وليس تغيير النظام بشكل كامل”.
وتجدر الإشارة الى ان المذكرة تضم 5 مراحل موزعة على الشكل التالي:
• المرحلة الأولى: تبدأ في 10 كانون الأول، حيث نبدأ بعقد اجتماعاتٍ مع فريق عمل وزارة الاقتصاد للحصول على الإسهامات النوعية ووضع اللمسات الأخيرة على منهجية العمل.
• المرحلة الثانية: تتمثل بإجراء دراسة استطلاعية داخل الوزارة لتقييم مستوى النزاهة المؤسسي والإداري والفردي.
• المرحلة الثالثة: نخوض دراسة استطلاعية أخرى لقياس تجربة وآراء عيِّنة من الأطراف المعنيين الذين يتعاطون مع الوزارة (أفراد وشركات)، بموازاة ذلك، يجري العمل على مراجعة وتقييم كل الإجراءات المتبعة في الوزارة.
• المرحلة الرابعة: تتضمن تحليل الدراسة الاستطلاعية والإجراءات، ويتم تشارك نتائج التحليل مع الوزارة لتحديد سلسلة التدابير الواجب اتخاذها لمكافحة الفساد وتحديد الأولويات.
• المرحلة الخامسة: يبدأ فيها تطبيق تدابير مكافحة الفساد المتفق عليها بإشراف “سكر الدكانة”.
من ناحية أخرى، يرى رئيس رابطة موظفي الإدارة العامة محمود حيدر، ان الإصلاح الإداري ينطلق من الموظفين، فهم أدرى من المجتمع المدني بما يحصل داخل الإدارة. ويذكّر حيدر بمحطات عديدة بادرت رابطة الموظفين فيها الى طرح مشكلة الفساد وطرق حلّها، لكن النظام العام القائم، يحول دون اتمام مهمة الاصلاح. ويعتبر في حديث لـ “المدن” ان الحد من الفساد “يبدأ بإعطاء الموظف حقوقه”، اذ كيف يمكن للموظف ان لا يخالف القانون وهو لا يحصل على حقوقه؟ ويعيد حيدر التذكير بأن سلسلة الرتب والرواتب هي أولى خطوات مكافحة الفساد، لأنها “تشبّع الموظف”، وتعطيه الثقة بالإدارة. ويقترح حيدر إجراء لقاءات مفتوحة بين الإعلام والروابط والنقابات والوزارات والمجتمع المدني، لبلورة الحلول المطروحة من الأطراف كافة، بهدف الوصول الى حلول حقيقية لأزمة الفساد. أما الحديث عن مكافحة الفساد عبر الإتفاقات والمذكرات ودورات التوعية، فلا تأتي بنتيجة مرجوة.
مبادرات المجتمع المدني في مكافحة الفساد، مطلوبة. لكن النظر الى تجربة المجتمع المدني في الشارع، تُظهر بأنه فاقد لإمكانية إجراء ضغط حقيقي لتطبيق الإتفاقيات التي يبرمها مع الإدارة المركزية. لذلك، على المجتمع المدني الى جانب احتكاكه مع الإدارات العامة، العمل على انتزاع حقوق قانونية تمكّنه من الضغط على الدولة أكثر. فعلى سبيل المثال، يمكن للمجتمع المدني انتزاع حق مقاضاة الأفراد والمؤسسات، وعلى الأقل، تسمح له هذه الخطوة، برفع دعاوى مباشرة ضد الفاسدين، وليس انتظار الأجهزة الرسمية الفاقدة للقوة، بفعل المحاصصات والتسويات.