في مثل هذه الأيام من عام 2011، كانت معركة الأجور، التي خيضت في اجتماعات لجنة المؤشر في وزارة العمل آنذاك، على أشدها.
كان من الواضح من سياق وسير الاجتماعات أنه على الرغم من كل الأدلة التي سيقت حول معدلات التضخم منذ 1996، سنة آخر تصحيح فعلي للأجور، وغيرها من المعطيات حول أزمة النمط الاقتصادي اللبناني، إلا أن ممثلي أصحاب العمل ومن وراءهم في ما يسمى الهيئات الاقتصادية لم يكونوا في وارد الاستماع الى هذا الكم الهائل من المعلومات والتحاليل الاقتصادية ذات التوجه اليساري، التي لم تهدف فقط الى زيادة الأجور، بل إلى جعل هذا الزيادة تتماهى مع عملية إطلاق العنان للاقتصاد اللبناني، بالإضافة الى تأمين أجر اجتماعي للبنانيين أساسه التغطية الصحية الشاملة.
لم ترد هذه الطبقة الاستماع الى هذه الاقتراحات الإصلاحية المتقدمة لأنها وضعت نصب أعينها منذ البداية الخروج بأقل «الخسائر»، أي بزيادة ضئيلة على الأجور من دون إحداث أي تغيير قد يطال مصالحها المتجذرة في اقتصاد ريعي واحتكاري نسج منذ عام 1992. في النهاية عندما لم تستطع أن تفرض رأيها في لجنة المؤشر (وهذا اعتبرته من النوادر الذي لم تتوقعه في علاقتها مع الدولة)، ذهبت الى الاتفاق مع الاتحاد العمالي العام من خارج الأطر القانونية وحصل ما يعلمه الجميع من زيادة هزيلة على الأجور.
بات هذا كله من التاريخ. اليوم، هناك حديث حول نية وزير العمل الحالي أن يدعو لجنة المؤشر الى الاجتماع. إن الأمر تأخر أكثر من ثلاث سنوات، إذ آن الأوان لأن تعود وزارة العمل الى أخذ الموقع الريادي في قضية تصحيح الأجور كما حصل في عام 2011. في هذا الإطار، يجب البدء بوضع أسس لجعل التصحيح دورياً ويطال جميع شرائح الأجر لا كما جرت العادة بتقسيم الأجر الى شطور، بدءاً من الحد الأدنى وتطبيق الزيادة تراجعياً حسب الشطور من الأدنى الى الأعلى، إذ إن هذه السياسة المتبعة دوماً منذ البدء بتصحيح الأجور تؤدي الى عدم حصول ذوي الأجر المتوسط والعالي على تصحيح يتناسب مع معدلات التضخم المتراكمة، ما يزيد من الإفقار النسبي للطبقة المتوسطة في لبنان التي تتحمل أيضاً بشكل غير متساو، نسبة الى الطبقات الغنية والفقيرة على السواء، الأعباء الضريبية ومصاريف السكن والصحة والتعليم وتدني إنتاجية الاقتصاد اللبناني وعدم إنتاجه للوظائف بشكل كاف.
بالإضافة الى ذلك، على الدولة أن تعيد النظر بآليات عمل اللجنة وتعديل قانون لجنة المؤشر على النسق الآتي:
أولاً، الإضافة الى مهماتها مواضيع دراسة سياسة الأجور طبقاً لمعايير العدالة الاجتماعية والفعالية الاقتصادية وتقديم المقترحات بتعيين الحد الأدنى للأجور والتصحيح الدوري للأجور.
ثانياً، جعل اللجنة الجهة الرسمية والقانونية الوحيدة المخولة تقديم المقترحات لتعيين الحد الأدنى والتصحيح على المستوى الوطني (حتى لا تتكرر مهزلة اتفاق الهيئات الاقتصادية والاتحاد العمالي العام الأخيرة).
ثالثاً، تعقد اللجنة اجتماعاتها حكماً في آخر أسبوع من أيلول من كل عام وتبقي اجتماعاتها مفتوحة حتى تقدم اقتراحاتها قبل الموعد القانوني لتقديم الموازنة العامة.
رابعاً، تأخذ اللجنة قراراتها على أساس التوافق أو بأكثرية الثلثين وإذا تعذر ذلك يرفع وزير العمل توصياته وتعتبر نهائية.
خامساً، يتبع في احتساب الحد الأدنى للأجر تطور مؤشر الأسعار، بالإضافة الى دراسات الفقر وكلفة السلة الاستهلاكية الأساسية.
خامساً، يتبع في احتساب تصحيح الأجور تطور مؤشر الأسعار، بالإضافة الى الزيادة في الإنتاجية في الاقتصاد بشكل عام حسب معادلة يتفق عليها في اللجنة.
سادساً، يمكن للجنة أن تقرر في توصيتها بنداً إعفائياً مؤقتاً (derogation) بحيث يتيح للمؤسسات، التي بسبب أوضاعها الاقتصادية أو المالية تعتبر غير قادرة على تطبيق الزيادة، فترة سماح لا تتجاوز السنتين، على أن تقوم لجنة تقنية في وزارة العمل ببتّ هذه الطلبات والقيام بمراجعة فصلية لأوضاع هذه المؤسسات خلال فترة السماح هذه.
على الصعيد العام، آن الأوان لأن تؤخذ قضية الأجور بجدية في لبنان، فالمسألة ليست فقط تقنية على أهمية الأمور التقنية أعلاه. لقد كان تجميد الأجور جزءاً من الاقتصاد السياسي في ما بعد الحرب، كما الكثير من المتغيرات الاقتصادية التي جعلت اقتصاده يخدم الأقلية ويهمش الطبقات العاملة والمتوسطة ويهجر الشباب اللبناني. القصة بأكملها أصبحت قديمة ومعروفة الآن، على الرغم من محاولات البعض اليائسة أن يجعل «إرث رفيق الحريري» من المقدسات التي لا يمكن المساس بها تحت طائلة كسر الأيادي، أو الأخطر من ذلك، محاولات البعض أن يجعله جزءاً من التجييش الطائفي الذي يسخر «إعادة الإعمار» وحتى نقده لمصالح الطوائف المختلفة. إن الزمن سيجعل الأمور تتوضح أكثر على مستوى الفهم النظري والسياسي لها وإن كانت بالطبع الآن جلية على المستوى المعيش، إذ إن اللبنانيين بأكثريتهم يعلمون كم ابتعد لبنان في عام 2015 عما وعدوا به في ذلك الوقت، الذي كان فيه اللبنانيون على درجة عالية من اليأس والإحباط، فاستسلموا لنظام ضريبي أثقل كاهل الطبقة المتوسطة، ولأجور مجمدة لمدة طويلة، ولتثبيت نقد قضى على صناعتهم، ولنمو دين عام ساهم في إثراء من هم أثرياء أصلاً، ولثقل الدين الخاص من أجل أن يستمروا في استهلاكهم وإنفاقهم على صحتهم وتعليم أولادهم، واستسلموا أخيراً لهجرة شبابهم ولعدم أمان في سكنهم ولمركز لمدينتهم مقفل كان من المفترض أن يكون هو الآخر «جنة مكانية». وهم قد يستسلمون الآن لأوليغارشية محتملة قد تأتي باسم الإنقاذ والتوافق لدفعهم إلى الاستمرار في حالة من الحياة المعلقة الى أجل غير مسمى. لربما تغيير في مكان ما يعطيهم الأمل بأن لبنان يمكن أن يبدأ خطوة نحو التغيير للأفضل، وإلا فإن اليوم الذي ينهار فيه هذا النظام الرأسمالي ــ الطائفي البائد آت لا محالة.