عبد الحافظ الصاوي
ثمة مجموعة من القضايا واجهت الحكومة المصرية خلال الفترة الماضية جعلتها تحت طائلة دفع تعويضات لجهات خارجية، في الوقت الذي تعاني فيه مصر من أزمة تمويلية حادة. وفي حالة التزامها بدفع هذه التعويضات، ستتفاقم أزمتها المالية ولن يكون لجهود الاقتراض من المؤسسات الدولية والإقليمية جدوى لسد الفجوة التمويلية، وتعويض نقص الدولار.
فحادثة مقتل سياح مكسيكيين منتصف سبتمبر/أيلول الماضي في صحراء مصر الغربية عن طريق الخطأ من قبل الأمن المصري، تسببت في إلزام الحكومة المصرية بدفع تعويضات لأسر هؤلاء السياح المقتولين وآخرين أصيبوا بجروح. وكذلك في شأن طائرة الركاب الروسية التي انفجرت في سماء سيناء مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وكان على متنها 224 شخصا، فإن التقديرات تذهب إلى أن حل هذه الأزمة بين البلدين سيكون في إطار دفع تعويضات لأسر هؤلاء الضحايا.
ومؤخرا أتى حكم التحكيم بشأن وقف تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل في فبراير/شباط 2012، حيث أصدرت محكمة غرفة التجارة الدولية بجنيف حكما بإلزام مصر بدفع 1.7 مليار دولار لصالح إسرائيل وشركة شرق البحر المتوسط، المملوكة لعدة شركاء بينهم رجل الأعمال المصري وضابط المخابرات السابق حسين سالم. وعلى الرغم من أن الحكومة المصرية أعلنت أنها ستستأنف ضد هذا الحكم، فإنه يمثل عبئا حتى وإن اقتصر على مجرد التكاليف القضائية.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فهناك العديد من قضايا التحكيم مرفوعة ضد مصر في دول أوروبية، بسبب أحكام قضائية صدرت في مصر بإلغاء عقود شركات تمت خصخصتها في عهد حسني مبارك لصالح خليجيين وأوروبيين. وتقدر قضايا التعويضات ضد مصر بسبب هذه الشركات بنحو 37 قضية، ويذهب البعض إلى أن قيمة هذه التعويضات نحو مئة مليار دولار.
وتوالي التعويضات التي ستتورط فيها مصر خلال الفترة المقبلة له جوانب مختلفة لن تتوقف على الجانب المادي، ولكن سيكون لها انعكاساتها على مختلف الجوانب الاقتصادية بمصر، وهو ما سنشير إليه في السطور التالية:
أزمة التوقيت
قد تستطيع مصر المفاوضة فيما يخص الشركات المطالبة بالتعويضات في قضايا الخصخصة، من خلال منحها مزايا أخرى أو التوصل إلى تفاهمات حول بعض بنود تلك العقود أو الدخول في صفقات أخرى بحيث يمكن تعويض أصحاب هذه الدعاوى القضائية من خلال أراض جديدة أو شراكات في مشروعات أخرى.
ولكن تبقى الأزمات الأخرى التي تحل من خلال تعويضات نقدية في وقت تعاني فيه مصر من أزمة حادة في مواردها الدولارية. وقضية السياح المكسيكيين هينة من حيث قيمة التعويضات، ولكن الأمر مختلف في قضية الطائرة الروسية حيث ستصل التعويضات إلى قرابة ملياري دولار حسب بعض التقديرات، وكذلك حكم تعويض وقف تصدير الغاز إلى إسرائيل بنحو 1.7 مليار دولار.
فما سعت مصر للحصول عليه من قروض من المؤسسات الدولية مؤخرا يقدر بنحو 4.7 مليارات دولار، وستحصل مصر منه على 2.7 مليار دولار قبل نهاية ديسمبر/كانون الأول الجاري، وهذا المبلغ سيُبدد إذا ما وفت مصر بقيمة هذه التعويضات. وإذا تم التفكير في الدفع على أقساط، فإن التزامات مصر من أعباء الدين الخارجي سنويا وصلت إلى 5.2 مليارات دولار، وستزيد هذه الأقساط من أعباء مصر الخارجية.
فتوقيت هذه التعويضات بالنسبة لمصر أتى في مقتل، وسيحد من مناورتها في مواجهة أزمة الدولار التي تؤثر بشكل مباشر على العديد من الأنشطة الاقتصادية، وكذلك سيضعف موقف القاهرة في الاستفادة من القروض التي أعلنت أنها ستحصل عليها بنهاية ديسمبر/كانون الأول 2015 من أجل دعم احتياطي النقد الأجنبي، والذي سيتعرض للانخفاض بعد سداد التزامات صندوق النقد الدولي مطلع يناير/كانون الثاني 2016 بنحو 650 مليون دولار، وكذلك السندات المستحقة لدولة قطر خلال 2016.
تراجع المعاملات الخارجية
من النتائج البديهية التي أعقبت حوادث مقتل السياح المكسيكيين وسقوط الطائرة الروسية، أن السياحة في مصر أصيبت في مقتل وأنها لن تتعافى إلا بعد فترة. وحسب توقعات وزير السياحة المصري فإن تأثير هذه الحوادث على السياحة في الأجل القصير سيتمثل في تراجع العائدات السياحية بنحو 10%. وإذا استمر مناخ مقاطعة مصر سياحيا في الأجلين المتوسط والطويل فستكون الخسائر كبيرة في العائدات السياحية التي تعاني من ضعف منذ ثورة 25 يناير.
ومن بين الآثار السلبية التي ترتبت على هذه الحوادث أن بعض الدول قاطعت الأنشطة الرياضية الدولية بمصر، وهو ما يعني وضعها في تصنيف سلبي فيما يتعلق بباقي تعاملاتها الخارجية المتعلقة بالسفر وغيره من الأنشطة الاقتصادية الأخرى.
ومن الجوانب المهمة التي تتعلق بتراجع تعاملات مصر الخارجية نتيجة الأداء الحكومي المتخبط، تغول الحكومة على دور القطاع الخاص، حتى وصلت الأمور إلى السماح للجيش بإبرام تعاقدات للمشاركة مع مستثمرين أجانب.
وهذا التصرف يزيد شكوك المستثمرين الأجانب في مدى التزام مصر بتعاقداتها، مما يعرض تلك التعاقدات للطعن أمام القضاء مستقبلا، بسبب تغول الجيش في الحياة المدنية والاقتصادية.
ضرب مناخ الاستثمار
تعول مصر بشكل كبير على جذب الاستثمارات الأجنبية، وبخاصة في ظل المشروعات التي أعلن عنها بعد الانقلاب العسكري. ولكن في ظل قضايا التعويضات المرفوعة التي تخص شركات برنامج الخصخصة، فإن هناك دلالات سلبية تتعلق بطبيعة تعاقدات الحكومة المصرية وعدم مراعاتها للجوانب القانونية، حيث تورط المتعاقدون معها فيما بعد حين تم فسخ تلك التعاقدات أمام القضاء المصري.
كما تحمل هذه القضية على وجه التحديد دلالات أخرى أشد سلبية وهي ما يتعلق بشبهة فساد مسؤولين مصريين، فإما أنهم لا يحسنون التقدير فيما يتعلق بالتقديرات المالية لشركاتهم وأصولهم، أو أنهم يتغاضون عن التقدير الصحيح مقابل الحصول على الرشاوى، فمعظم القضايا التي حكم فيها القضاء المصري ببطلان عقود الخصخصة، كان ذلك بسبب فساد حول التقويم المالي لأصول تلك الشركات وأنها بيعت بثمن بخس.
وفي كل قضايا التعويض، إذا حكم فيها بشكل نهائي لن يكون أمام مصر إلا أن تدفع، أو تصبح دولة سيئة السمعة تجعل تقويم وضعها على خريطة الاستثمارات الأجنبية غير مرغوب فيها، فضلا عن تعرض مصر في حالة عدم السداد لعقوبات أبسطها الحجز على أصولها المالية أو عقاراتها في الخارج.
إن النظام المصري لم يتعلم من دروس الماضي، فما تم في أيام مبارك من تفرد الحكومة بعقد صفقاتها بعيدا عن باقي المؤسسات المعنية، يحدث بشكل كبير بعد الانقلاب العسكري حيث تتم الموافقة على المشروعات وبخاصة المتعلقة بمشاركات مع الأجانب من طرف السلطة التنفيذية دون مراعاة للجوانب القانونية أو مشاركة الجهات الرقابية المعنية.
الخاسر الأكبر من هذا المناخ السلبي بمصر هو مستقبل التنمية، فتحت ضغوط التعويضات ستتقلص فرص الإنفاق العام على الخدمات الرئيسية في قطاعات التعليم والصحة والبنية الأساسية، أو مواجهة مشكلتي الفقر والبطالة، فضلا عن خلق فرص للداخلين الجدد إلى سوق العمل والذين يزداد عددهم عاما بعد عام ليتجاوزوا 850 ألف شخص.