كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
ما من أحد ينكر أنّ مرحلة المفاوضات الصعبة والشائكة في شأن حروب المنطقة وأزماتها بدأت فعلياً، لكنّ المشكلة تكمن في أنّ البعض مستعجل أكثر من اللزوم ويتحدث عن نتائج قريبة مثل الاوروبيين وحلفائهم العرب، فيما الفريق الآخر يضع خططه وبرنامجه على أساس أنّ المرحلة طويلة، لا بل طويلة جداً، من التفاوض المضني والمرهق الذي سيتخلّله محطات دموية قاسية ومعارك لا بد منها لتفرض نتائجها نفسها على الصيغ النهائية للحلول، وهذا الفريق يتألف أساساً من ايران وحلفائها.لا حاجة للقول إنّ الملف اللبناني يرزح تحت ثقل الملفات الاخرى، ما يعني أنّه محكوم بالانتظار لفترة طويلة وفق توقعات هذا الفريق. وهو ما يُفسّر تعثّر المبادرة التي عرفت بتسوية النائب سليمان فرنجية.
قريباً جداً يباشر التحالف العسكري المؤيّد للرئيس السوري بشار الاسد هجوماً واسعاً وعنيفاً في حمص وريف اللاذقية (جسر الشغور) وحلب تزامناً مع هجوم آخر لا يقل عنفاً في الرمادي العراقية من القوات الموالية للحكومة. وهناك من لا يستبعد أن تشتعل أيضاً جبهات لبنان في جرود عرسال وأن يُنفّذ الجيش اللبناني عمليات تقدّم وتطهير.
أسباب عدة حتّمت الذهاب الى هذه المعارك، أبرزها السقف السياسي الشاهق لمعارضي الاسد الذين لا يزالون يطالبون برحيله ولو من باب التكتيك الآني، إضافة الى ما ظهر من مواقف تستند الى خريطة ميدانية لا يحظى فيها فريق الرئيس السوري بأوراق كثيرة حسب اعتقاد معارضيه.
والأهم يبقى الموقف الروسي الهجومي الذي أضحى أكثر شراسة بعد إسقاط تركيا طائرة «السوخوي»، وقد بَدا ارتفاع منسوب الشراسة الروسية واضحاً مع إدخال منظومة صواريخ الدفاع الجوي المتطورة التي كانت القيادة العسكرية الروسية تُحاذر نشرها خارج روسيا باستثناء أوروبا حيث التوازن مع دول «الناتو» ضروري.
روسيا التي عزّزت قوتها الجوية والبحرية والصاروخية تبدو كمَن تجاوز التزامه السابق والقاضي بعدم تجاوز عملياتها الجوية مهلة الاربعة أشهر. فالتحدي التركي دفعها الى اعتماد حسابات أخرى وهو ما كانت تتوقعه طهران منذ البداية: «تدحرج في التورّط الروسي في الحرب السورية»، لا بل إنّ طهران راهنت ولا تزال على اضطرار روسيا الى إقحام قواتها البرّية في الصراع السوري المتصاعد.
روسيا ستعمد من خلال التصعيد العسكري القريب الى إرسال رسائل موجعة الى تركيا من خلال المناطق التي يُسيطر عليها التركمان اضافة الى التحكم بكامل خطوط التواصل الحدودية بين تركيا وسوريا، خصوصاً في منطقة حلب.
كل ذلك يعني أنّ جولات التفاوض «الباهتة» ستُعلّق أو تُجمّد أو أنها ستقع في روتين المراوحة في انتظار النتائج الميدانية، وقد تكون التسوية حول الملف الرئاسي في لبنان قد وقعت ضحية هذا الواقع.
قيل إنّ تواصلاً سعودياً- إيرانياً على مستوى وزيري الخارجية نجح في فتح الطريق امام إنجاز «تسوية سليمان فرنجية»، لكنّ اللقاء لم يتجاوز الدقائق العشر، فيما الجرح اليمني بات ينزف في الداخل السعودي، لدرجة أنّ مسؤولين سعوديين فاتحوا المدير العام للأمن العام اللبناني اللواء عباس ابراهيم في التواصل مع ايران واستكشاف الاجواء الجدية لذلك، وقد تكون دعوة الرئيس نبيه برّي تأتي في هذا السياق اكثر منه في سياق الازمة اللبنانية.
فرنسا اندفعت في اتجاه طهران لتعبيد الطريق امام نجاح التسوية الرئاسية الاخيرة، متسلّحة بتفويض اميركي لها. أبدى المسؤولون الايرانيون تجاوباً شكلياً مع الطلب الفرنسي وأرفقوا ذلك بتعهّد بأنهم سيتحدثون مع «حزب الله».
زار مستشار المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي اكبر ولايتي بيروت حيث التقى الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله وخرج بتصريح بارد لا يحمل أيّ إشارة جدية تَروي الغليل. وعاد بعدها ليقول إنّ «حزب الله» لديه التزامات مع العماد ميشال عون ولديه رؤيته الخاصة لمقاربة الملف الرئاسي وأنّ ايران تحترم وجهة نظره وهي لا يمكنها التأثير على مواقف الحزب في الملفات اللبنانية.
واستنتجت باريس، ولكن بشكل متأخّر، أنّ أمام ايران الكثير من الوقت والملفات والمفاوضات قبل الشروع في الملف اللبناني، إذا إنها ستسعى لربط الملف اليمني بالملف السوري، فكم بالحري الملف اللبناني.
لكن الملف السوري ليس وحده «الكلمة السحرية» لحل الملف اللبناني. قد يكون مؤشراً لفتح الملف ولكن لمسالك حلّه شروطاً لها علاقة بالواقع اللبناني الداخلي وهي بنود اساسية جداً بالنسبة الى «حزب الله».
عندما زار الوزير السابق يوسف سعاده، الرئيس السوري موفداً من رئيس تيار «المردة» النائب سليمان فرنجية، اكتفى الأسد بالاستماع إلى ما حمله من دون اعطاء جواب واضح. هو صمت يمكن تفسيره في كل الاتجاهات، لكنّ القريبين من دمشق فسّروه بأنه «لا جواب» في انتظار زيارة فرنجية نفسه للتشاور والتباحث.
لكن ومع تلاحق التطورات، أرسل الأسد وراء رئيس الحزب «الديموقراطي اللبناني» النائب طلال ارسلان الذي تعرّضت سيارته لحادث سير في ضهر البيدر خلال توجّهه الى دمشق وقد تابع مشواره في سيارة اخرى.
هناك، حَمّله الاسد رسالة من ثلاثة بنود لفرنجية وهي:
1- سليمان فرنجية هو أنا وتاريخنا مشترك ومستقبلنا أيضاً.
2- لماذا يريدون منّا أن نتدخل لصالح هذه المبادرة؟ فليتولَّ أصحاب هذه المبادرة الحقيقيين التدخل المباشر وتذليل عقباتها مع العماد ميشال عون. لماذا يريدون منّا المساعدة في مبادرة لا علاقة لنا بها.
3- أريد ان يكون فرنجية رئيساً فعلياً في لبنان وأن يُمسك جدياً بمقاليد السلطة والحكم لا أن يكون رئيساً من دون قدرة على الحكم.
في هذا الوقت، كان «حزب الله» يتابع بكثير من الاستنفار تفاصيل ما هو مطروح. وكان التواصل حاصلاً بين فرنجية ونصرالله قبل لقاء باريس وخلاله وبعده. لكن عدم تعليق «حزب الله» على ما كان يرويه فرنجية قبل اجتماع باريس انقلبَ «نقزة» لديه بعد الاجتماع.
«النقزة» لم تكن أبداً من فرنجية الذي كان ولا يزال وفق نظرة الحزب «المرشّح الحلم»، ولكن من مشروع عودة الحريري الى رئاسة الحكومة وفق برنامج غير واضح.
إذ قال مثلاً نادر الحريري للوزير السابق فيصل كرامي: لماذا تختصر المسافة بينك وبين نجيب ميقاتي وتتواصل معه؟ التسوية قادمة وهي قريبة وسنخوض الانتخابات على اساس القانون المعمول به حالياً وأنت ستكون حليفنا على اللائحة، فلماذا هدر الوقت مع ميقاتي؟
الواضح أنّ «حزب الله» يرفض بالمطلق العودة الى انتخابات نيابية وفق النظام الاكثري. هو يتمسّك بالنظام النسبي وقد يكون التفاوض الجدي في نهاية المطاف على النظام المختلط. وعندما يُكرّس ذلك فهو يعني إدخال تغيير جذري على تكوين المجلس النيابي، البنية التحتية للنظام السياسي اللبناني، ما يعني تغييراً لاحقاً في تركيبة السلطة. لكنّ ذلك قد لا يُخفي نقاطاً أخرى تفوق أهمية لدى «حزب الله».
فخلال مرحلة المفاوضات التي عرفت بالـ»سين – سين» عام 2010 حصل تفاهم على سلة متكاملة قبل أن تسقط في اللحظات الاخيرة. وسلة التفاهم هذه ارتكزت الى النقاط الآتية:
أولاً: بالنسبة الى تيار «المستقبل»، يحتفظ بنفوذه في فرع المعلومات وإبقاء اللواء اشرف ريفي على رأس المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي. ويُكرّس كذلك نفوذه في القضاء من خلال بقاء القاضي سعيد ميرزا في موقعه كمدعي عام للتمييز مع الاحتفاظ بحق تزكية خلفه. ويُبقي كذلك على حقّه ومسؤوليته في الوزارات التي لديها طابع اقتصادي ليكون الاقتصاد من مسؤوليته.
في المقابل، يجري العمل على تشريع المقاومة ودورها بحيث يصبح عملها شرعياً وعلى أساس تركيبتها وقواها العسكرية وسلاحها.
ثانياً: أن تكون المقاومة شريكاً في الملفات الأمنية خصوصاً تلك المرتبطة بالقتال مع اسرائيل.
ثالثاً: انسحاب لبنان من المحكمة الدولية ووقف مشاركته «التمويلية» بسبب التوظيف السياسي للمحكمة واستخدامها في الصراع مع «حزب الله» أكثر منه اعتماد المعايير القضائية الصحيحة لاكتشاف قتلة الرئيس رفيق الحريري.
وهذه التسوية كانت على قاب قوسين من ولادتها، وكان «حزب الله» يستعد لإطلاع حلفائه على مضمونها وفي طليعتهم العماد عون، وبمواكبة مباشرة من قطر والسعودية اللتين أرسلتا وفوداً الى لبنان، لكن فجأة اتصل الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز بالأسد وقال إنه سيسحب موافقته بسبب اعتراضه على البند المتعلق بالمحكمة الدولية.
وتوقفت صفقة «السين- السين» ليعلن بعدها فريق الثامن من آذار انسحابه من الحكومة من الرابية فيما كان الحريري يهمّ بالدخول للاجتماع مع الرئيس الاميركي باراك أوباما.
ومنذ ذلك التاريخ وضع «حزب الله» ملف هذه التسوية جانباً في انتظار الوقت الملائم. وعلى رغم أنّ «حزب الله» لن يعلن أبداً من جانبه إعادة طرح هذا الاتفاق، لكن هناك من بدأ يشتمّ رائحة «السين – سين» مجدداً، كأحد المسالك الاساسية للوصول الى تسوية في لبنان.
في اختصار، لا تزال الحلول بعيدة وفق الحسابات الحالية، إلّا اذا حدثت مفاجأة صادمة وغير متوقعة، عندها لكلّ حادث حديث.