ارتبط الحديث عن الإغتراب اللبناني بحياكة بعض العبارات المزيّنة، التي تُظهر ان الإغتراب يشكل دعامة للإقتصاد اللبناني، وأن المغترب اللبناني يذهب ليكد ويتعب في الخارج، وكلّه حنين للعودة الى وطنه، لتأسيس مشروع إقتصادي يساعد من خلاله أبناء بلده، ويساهم في تطوير الإقتصاد.
إنها صورة ساذجة عن الإغتراب الذي لم يكن ولن يكون جسراً للتواصل بين لبنان المقيم ولبنان المغترب كما يُقال. فللإغتراب أسباب إقتصادية في الدرجة الأولى، تؤثر على المستوى الداخلي بخفض عدد اليد العاملة المحلية، خصوصاً الفنية والمتخصصة منها، فضلاً عن إحداث تغيير في الهرم السكاني، لناحية خلل العلاقة بين نسبة الذكور ونسبة الإناث، بالاضافة الى رفع نسبة اليد العاملة الهرِمة… وما الى ذلك من نتائج تصل الى حد الكارثة، في ظل وجود سياسات حكومية لا تضع حلولاً فعالة لأزمة هجرة الشباب.
بعيداً من التمنيات، يبقى الواقع هو الأصدق. وعليه، فإن الحديث عن تأثيرات إقتصادية لأموال المغتربين، يحتاج الى كثير من التدقيق، دون الحاجة الى الدخول في توصيفات العلاقة العاطفية مع المغتربين، والتي يحلو للسياسيين الحديث عنها في كل مناسبة تتعلق بالمغتربين. وللمفارقة، فإن محاولة المزج بين الواقع والأمنيات، توقع السياسيين في فخ تضارب المعلومات. فمن جهة يحتاج السياسيون الى كلام معسول لإخفاء الأزمة الإقتصادية عبر الحديث عن دعم تحويلات المغتربين للإقتصاد الوطني، ومن جهة أخرى فإن أرقام العجز تبقى ظاهرة بوضوح، ولسان حال المغتربين الشباب يؤكد أنّ جسر الإغتراب لم يعد يقوى على حمل “بدعة” أن لبنان “قويٌ بإنسانه وبطاقاته الجبارة المنتشرة في الكون وهي موارد مستدامة ومتجددة على صعيد الثقافة والاقتصاد والعلم والفن والسياسة، مما أثرى البشرية وجعل من لبنان وطنا تخطى مساحته وحدوده وزرع قصص النجاحات في كل المعمورة”، والتي أصرّ وزير الخارجية جبران باسيل على تكرارها الثلاثاء في إفتتاح “مؤتمر الاقتصاد الاغترابي” الذي تنظمه مجموعة الاقتصاد والأعمال، في بيروت.
الطاقات الجبارة التي يتحدث عنها باسيل، هي طاقات تخدم الدول التي يعيش فيها المغتربون، ولا تفيد الإقتصاد اللبناني. فهذا الإقتصاد قائم حالياً على شبكة من المصالح لكبار المستثمرين الذين يمسكون بالإقتصاد. ولا تحدث اموال المغتربين أي فارق أمام تلك الإستثمارات الداخلية، وخصوصاً في قطاع العقارات. إذ يشير الخبير الإقتصادي إيلي يشوعي ان لبنان “لا يملك قطاعات إنتاجية ترفع الإقتصاد، فالسياسات الرسمية تشجع أسواق الإستهلاك واسواق العقارات”. وينفي يشوعي في حديث لـ “المدن” الكلام عن ان تحويلات المغتربين تساهم في تعزيز الإقتصاد اللبناني وتقويته، فبرغم تحويلات المغتربين “سجل ميزان المدفوعات للعام الحالي، عجزاً بحوالي مليار دولار”. ويلفت يشوعي النظر الى ان “تحويلات المغتربين تذهب الى الإستهلاك المباشر”، ويضيف ان “المغتربين لا يودعون أموالاً في المصارف اللبنانية، إذ ان 85% من الودائع هي للمقيمين، ولا صحة لمقولة ان غالبية الودائع هي للمغتربين”، حتى ان الودائع التي تسجل بأسماء المقيمين، وهي في الأصل لأبنائهم المغتربين، “ليست معروضة للإنتاج أو الإستثمار، بل معدّة للإستهلاك، وبالتالي فإن تأثيراتها لا تذكر على الإقتصاد، ولا تفيد القطاعات الإنتاجية”. وبرغم ذلك، يرى يشوعي ان عدم توفر الأموال بشكل كبير ليس هو المشكلة، بل المشكلة في كيفية إدارة الأموال المتوفرة، مهما كانت قليلة.
وجهة نظر يشوعي يفصّلها بشكل أبسط، بعض المغتربين الشباب، الذين يرون أن أموالهم لا تؤثر في الإقتصاد، وهم لا يبالون أصلاً إذا أثّرت أو لم تؤثر، فكل همّم اليوم ينصبّ على “إدخار بعض الأموال للإستهلاك، ومساعدة الأهل، لا أكثر”. هذه النظرة السلبية لم تأتِ من فراغ، فأي شاب يهمه تجميع ثروة واستغلالها في مشروع انتاجي في لبنان، لكن هذه الخطوة تصطدم باللعبة السياسية الداخلية. فأي مشروع سيحمله الشباب “سيجد بوجهه شبكة معوقات سياسية، تبدأ من بسط سيطرة المتنفذين في القرية أو المدينة، وصولاً الى التركيبة السياسية الكبيرة على مستوى لبنان”، وفق ما يقوله الشاب الجامعي الذي هاجر الى ساحل العاج، رامي صبّاح. ويرى صبّاح خلال حديثه لـ”المدن” ان البقاء في لبنان يستدعي تحول الفرد الى “جزء من النظام الديكتاتوري التوافقي”، لذلك، كان “لا بد من الهجرة”.
لكن الهجرة “لا تسمح سوى بتحسين الأوضاع الإقتصادية على مستوى فردي، سواء في الإستهلاك المباشر، أو في إفتتاح مطعم او محل صغير. أما من يريد القيام بمشاريع كبيرة، فهنا تبدأ المخاطرة الإقتصادية، لأن تأثير أقطاب النظام تصبح أكبر”. ويذكر صبّاح أن “أحد المتمولين الجنوبيين أراد أن يفتتح مصنعاً للعصير في الجنوب، قادراً على استيعاب انتاج الحمضيات في المنطقة. لكن المشروع توقف بسبب إصرار زوجة احد المتنفذين على تقاضي نسبة من أرباح المصنع، بالاضافة الى محاربة بعض المصانع النافذة على مستوى لبنان لهذا المشروع، وضغطهم على المسؤولين السياسيين لعدم إعطاء رخصة للمصنع الجديد”. وفي المحصلة، “عدل المتمول عن اقامة المشروع. علماً ان المباني والتجهيزات المطلوبة كانت حاضرة”. ويتساءل صبّاح انه “امام هذه النماذج، عن أي مساهمة إقتصادية يمكننا الحديث؟”.
التجارب الشخصية والمؤشرات الإقتصادية، تضع كلام باسيل عن “التخطيط الإستراتيجي لضمان حركة دائمة جاذبة للإيجابيات وطاردة للسلبيات في الدورة الإقتصادية”، أمام المساءلة والتدقيق. فأين هو التخطيط الإستراتيجي وأين هي محفزات الإستثمار في القطاعات الإنتاجية؟ خصوصاً في ما يتعلق بصغار المنتجين. غياب التخطيط يعني ان أسباب هرب اللبنانيين الى الخارج ما زالت قائمة، وكلام باسيل عن “ما يربط اللبنانيين ببلدهم من أسباب للفرح والمحبة” لم يعد جذاباً. اما جسر التواصل، فيتحول شيئاً فشيئاً الى 2000 دولار، يرسلها المغترب الى أهله، فيدعوهم الى زيارة بلده الجديد حيث تحترم القوة الإقتصادية للوافدين وتحترم إنسانيتهم قبل كل شيء.