IMLebanon

صفقة تُعوِّم جنبلاط…ولا تُعيد الحريري

walid-jumblatt

 

كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:

هل كان الرئيس سعد الحريري متأكداً من مجريات اللعبة التي ستنشأ عن التسوية الرئاسية، لو نجحت؟ أيْ، هل يضمن أن يتمّ التزام الشرطين اللذين تقوم عليهما التسوية: «فرنجية في بعبدا والحريري في السراي»، فلا تتعطّل فور إنجاز البند الأوّل، أيْ انتخاب فرنجية؟إقتنع الحريري من النائب وليد جنبلاط بأنّ انتخاب النائب سليمان فرنجية هو الوصفة السحرية لحلّ كلّ المشكلات في «بيت الوسط». ومن خصوصيات جنبلاط أنه يضطّلع بدور الوسيط، فيتقاضى المكافأة على الأتعاب عند إتمام الصفقة. هذا ما فعله دائماً في العهد السوري، كما في الحلف الرباعي والدوحة وغالبية الاستحقاقات الأخرى.

ويحقّ لزعيم الدروز، الطائفة الأقلية، أن يبتدعَ طريقة ليوجد له ولطائفته دوراً على خريطة الأكثريات المهيمنة، فلا يجري استضعافها كما المسيحيون، ولا تذهب فرق عملة في صراع السنّة والشيعة. وغالباً ما ينجح جنبلاط في مهمته.

لكنه حاول التوسُّط في سوريا أيضاً عند اندلاع الحرب هناك، بمساعدة موسكو، لكنّ تشبُّث الرئيس بشار الأسد بالسلطة عطَّل عليه الوساطة. ولهذا بقي جنبلاط يصبُّ نقمته على الأسد، إلى أن تأكّد أخيراً أنه لن يرحل عن السلطة. وهكذا، قرَّر بناءَ جسور العودة في اتجاهه. وهل مِن جسرٍ يوصل إلى الأسد بأمان أفضل من فرنجية.

«البكوات يفهم بعضهم على بعض». و»بيك الشمال»، بعد وصوله، سيردُّ إلى «بيك الجبل» ما قدَّمه إليه من جميل: صفحة جديدة مع الأسد، قانون انتخاب يكرّس الزعامة على الجبل، أفضل المكاسب في «العهد الفرنجي»… والنفط أحدها، واستثمارات بالشراكة مع الحريري في إعادة بناء سوريا.

لم يكن لدى الحريري خيارات كثيرة عندما عرض عليه جنبلاط الفكرة، ودعاه إلى تسويقها في المملكة العربية السعودية وباريس وواشنطن والفاتيكان، وأقنعه بأنّ انتخابَ فرنجية سيفتح له أبوابَ الفرج كلها، دفعة واحدة، على المستويات السياسية والخاصة:

العودة إلى لبنان للإمساك مجدّداً بالقاعدة السنّية، ترؤس الحكومة مجدّداً، تعويم قانون الـ60 الذي يخدم مصلحة «المستقبل»، والإفادة من فرنجية لبناء مرحلة جديدة مع الأسد والاستثمار في إعادة بناء سوريا. وهذا العنصر الأخير حيوي جداً للحريري كرجل أعمال في زمن الأزمات الخانقة.

نجح الحريري في تسويق المبادرة جزئياً في السعودية. وقبل اكتمال الأفراح سعودياً، جرى كشف لقائه مع فرنجية، وخرجت الدبابير من الوكر الإيراني. وهكذا احترقت الطبخة سعودياً وإيرانياً في آن واحد.

ولأنّ الفشل لا يتبنّاه أحدٌ عادةً، بدأت المختارة تُحمِّل الحريري المسؤولية عن سوء إدارة المبادرة، سواءٌ بالتسرُّع في كشف اللقاء الباريسي أو باستخفاف القريبين في إطلاق المواقف الاستفزازية.

في أيّ حال، يقول بعض العاتبين على الحريري، رفاقه في «14 آذار»: لسنا «زعلانين» منه بقدر ما نحن «زعلانين» عليه. فهو كان في صدد التورُّط في مأزق صعب، وكان سيندم لاحقاً، كما ندم من قبل على زيارته سوريا والحلف الرباعي وسوى ذلك. ولكنّ الندمَ لن ينفع آنذاك.

إذا تمّ انتخاب فرنجية في أقرب فرصة ممكنة، وجاء استحقاق تأليف الحكومة، فهل يضمن الحريري أنه يستطيع العودة إلى لبنان؟

الكثيرون من القريبين من الحريري، المطلعون أمنياً، ما زالوا يعتقدون أنّ الدوافع الأمنية التي كانت وراءَ خروجه من لبنان ما زالت قائمة. فمَن قال إن صفقة المجيء بفرنجية رئيساً للجمهورية ستتكفّل بزوال المخاطر الأمنية عن الحريري؟

ولماذا ستكون الصفقة مؤشراً إلى ذلك؟ أليس ذلك تأكيداً على أنّ محوراً معيناً يقف وراء المخاطر الأمنية؟ فهل يقوم هذا المحور بخطوة تكشف عن هذا الدور… إذا كان صحيحاً أنه هو الذي يقف وراء المخاطر؟

وفقاً للعديد من المؤشرات، الحريري لن يعود إلى لبنان ولو جرى انتخاب فرنجية. ولذلك، سيكون أمامه أحد احتمالين: إما أن يتمثّل برئيس للحكومة من «المستقبل» كالوزير نهاد المشنوق مثلاً، المتحمِّس للتسوية، وإما برئيس قريب من «المستقبل» كالرئيس تمام سلام.

إذاً، ما المكاسب السياسية التي يجنيها الحريري إذا جاء بأحد صقور «8 آذار» رئيساً للجمهورية، وبقيت رئاسة الحكومة كما هي اليوم، لأحد المحسوبين على «المستقبل»؟

فلا الإمساك بالقاعدة الشعبية ممكن، ولا ولادة قانون الانتخاب سهلة، ولا المكاسب المنتظرة من سوريا ستتحقّق لأنْ لا تسوية في الأفق هناك ولا رحيل للأسد.

البعض يعتقد أنّ التسوية التي ابتكرها جنبلاط، ويُقال إنها جاءت أيضاً بناءً على اقتراح شخصية نافذة قريبة من سوريا، ستؤدّي إلى تعويم جنبلاط، لكنها ستورِّط الحريري. ومن الطبيعي ألّا يكون جنبلاط قاصداً توريط الحريري مقابل إنقاذ نفسه، لكنها عملياً ستنتهي هكذا.

فالحريري سيوصل فرنجية ويجلس منتظراً تنفيذ الجزء الثاني، أيْ العودة إلى لبنان، بلا أفق واضح. وسيؤدّي ظهور أيّ اضطراب أو تهديد أمني من أيّ نوع إلى تخويفه من العودة. وما أكثر التهديدات فيما الأميركيون يطلبون من رعاياهم الحذر في المجيء إلى لبنان.

إذاً، تندرج عودة الحريري في سياق مجموعة من الأوهام والمغالطات والتناقضات المذهلة التي انطوت عليها الصفقة الموعودة، ومنها أيضاً:

1- القول إنّ التسوية تقوم على التوازن في السلطة: «رئاسة الجمهورية لـ«8 آذار» مقابل رئاسة الحكومة لـ«14 آذار»، أيْ «المستقبل». وهذا يعني استثناء رئاسة المجلس النيابي التي هي لـ»8 آذار» أيضاً. إذاً، فالصفقة لا تُوازِن بين «8 و14» في السلطة.

2- القول إنها ستقلب المعادلة بين بيروت ودمشق، فتعطي الرئاسة لحليف الأسد في لبنان، وتأتي بخصوم الأسد إلى الرئاسة في سوريا. والواقع هو أنْ لا تسوية سورية في الأفق ولا رحيل للأسد حتى إشعار آخر.

3- الإيحاء بأنها جاءت بتوافق سعودي – إيراني وتحظى بتغطية أميركية- أوروبية- فاتيكانية. ولكن، لا توافقَ كاملاً على المبادرة في الرياض ولا قبولَ في طهران. وأما القوى الدولية فتريد ملءَ الفراغ الرئاسي، لكنها ليست مع هذه المبادرة حصراً.

4- الأكثر سوريالية في المشهد هو أنّ «شقيق الأسد» النائب سليمان فرنجية أصبح مرشحَ «المستقبل» وجنبلاط بلا منازع. فيما حليف فرنجية الأقوى، «حزب الله»، يقاتل لمنع وصوله إلى بعبدا.

5- المفارقة أيضاً هي أنّ الأقطاب المسيحيين، ولاسيما العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع، تقاطعت مصالحهم وتوافقوا، ولو على الرفض. وحتى الآن، لم يطعن أحدهم الآخر في الظهر، كما في تجارب أخرى، كتجربة القانون «الأرثوذكسي».

ولكنّ المفارقة تصبح معجزة إذا اتفق هؤلاء، ومعهم فرنجية، على المرشح المسيحي الذي لا يمكن لأحد رفضه. وكثيرون يقولون إنّ اتفاقهم يبقى مجرد خرافة. ولا يجوز لأحد أن يراهن على خرافة.

رافضو التسوية الرئاسية، من رفاق الحريري في «14 آذار»، يقولون: عليه أن يشكرنا لأننا أنقذناه وأنقذنا ما تبقّى من فريقنا. فالمبادرة ليست سوى فخٍّ منصوب له ولـ«14 آذار». وهو سيدفع عندما يتمّ انتخاب فرنجية، لكنه لن يقبض بتحقيق المكاسب المنتظرة في المقابل.

لكنّ آخرين يسألون: إذا كانت الصفقة كذلك، فلماذا يرفضها «حزب الله»؟ وتالياً، إنّ رفض «الحزب» لها ليس سوى مناورة لتحسين الشروط قبل إتمام الصفقة. ولذلك، قد تعود المفاوضات وتنجح الصفقة في أيّ لحظة.

في أسوأ الأحوال، تحصر الصفقة موقع رئاسة الجمهورية بفريق «8 آذار». فالصراع اليوم هو: هل تكون لفرنجية أم عون؟ وإذا تمّت تسوية فستكون داخلَ الفريق إيّاه، وليست بين «8 و14».

وهكذا، يبدو فريق «14 آذار» وداعموه الإقليميون، مرة أخرى، في موقع ردة الفعل غير الواعية، فيما خصومه يخطِّطون وينفِّذون ببرودة أعصاب كاملة.