عندما جاء تاماس إلى بريطانيا في عام 2011، كان هدفه بناء حياة جديدة. كان سيتعلم اللغة الإنجليزية، ويتجاوز الانفصال عن زوجته، وربما حتى يكسب ما يكفي من المال لنقل أطفاله يوماً ما. كان هو وصديقه، بينس، قد سمعا أن بإمكانهما كسب ما يصل إلى ألفي جنيه شهرياً من العمل في المصانع – أكثر بكثير مما كان في موطنهما، هنغاريا.
بدلاً من ذلك، وقع الرجلان، مثل عدد مُتزايد من الآخرين، ضحية الاتّجار بالبشر، وهو اتجاه عالمي مع عواقب وخيمة بالنسبة إلى الشركات، والحكومات، والمجتمعات ككل. الرجل الذي أقنع تاماس وبينس بتجربة حظهما في بريطانيا أخذهما في رحلة لمدة يومين في سيارة من هنغاريا. عند الوصول تم منحهما المسكن، لكن فقط بعد تسليم جوازات سفرهما وغيرها من الوثائق. وتم منعهما من مغادرة المبنى ما لم يكُن ذلك إلى العمل.
خلال الأشهر الخمسة التالية، أُجبِر الرجلان على أداء مجموعة من المهام: بيع الهواتف الخلوية، وسرقة البنزين، ومُطاردة الدجاج في مزرعة بدون سياج. في المقابل حصلا على مبلغ مالي لمرة واحدة؛ خمسة جنيهات من أجل المستلزمات الأساسية للحمام. وكانا يعيشان على وجبات تتألف من حساء البطاطا والفاصوليا المطبوخة لمدة ستة أيام في الأسبوع. بعد هربه، قال تاماس للعاملين على قضيته “كان إرهابا نفسيا. في عدة مناسبات كان يتم تهديدنا جسدياً”. كان على مقربة من الانتحار عدة مرات، لكن بينس كان يُثنيه.
قصتهما ليست نادرة. الهجرة على نطاق واسع، التي غيّرت بريطانيا منذ مطلع القرن، غذّت الفرص بالنسبة إلى المُهرّبين وزعماء العصابات المُتعطّشين لاستغلال اليائسين الباحثين عن عمل من الخارج.
عدد الأشخاص الذين صنّفتهم وزارة الداخلية البريطانية ضحايا مُحتملين للاتجار بالبشر ارتفع بمقدار الثُلث العام الماضي ليُصبح 2340 شخصا. جاءوا من 96 بلدا: الأطفال الفيتناميون محبوسون في شقق في مانشستر لزراعة القنب، والنساء والفتيات الألبانيات مُحاصرات في بيوت دعارة في لندن، ومئات الرجال من أوروبا الوسطى وخارجها يعملون في أنحاء بريطانيا، مُقيّدين لدى المُهرّبين بديون لا يقدرون على سدادها.
بشكل عام، وفقاً لتقديرات وزراة الداخلية، هناك نحو عشرة آلاف إلى 13 ألف شخص مُستعبدون في بريطانيا الحديثة، ضحايا جريمة تعتبر مخفية بقدر ما هي واسعة الانتشار.
بالنسبة إلى النداء الموسمي هذا العام، تعمل “فاينانشيال تايمز” في شراكة مع “ستوب ذا ترافيك”، وهي منظمة تهدف إلى زيادة الوعي بالاتّجار بالبشر. تقول تيريزا ماي، وزيرة الداخلية البريطانية “إذا ذهبتم إلى الشوارع وسألتم أي شخص عن العبودية، يقول: (حسناً، لقد تم إلغاؤها، أليس كذلك، منذ مئات الأعوام)، معظم الناس لا يعتقدون أن هذا شيء يحدث، لكنه بالطبع يحدث”.
لكن على الرغم من جهود الحكومة لمكافحة الاتّجار بالبشر – بما في ذلك قانون جديد دخل حيّز التنفيذ في تشرين الأول (أكتوبر)؛ قانون العبودية الحديث لعام 2015 – إلا أن ضحايا العمل القسري لا يزالون ضعفاء للغاية ومُعرّضين لخطر الوقوع في أيدي المُهرّبين مرة أخرى.
آن ريد، من جيش الإنقاذ، الذي يهتم بالأشخاص الذين يتم تحويلهم إلى برنامج مكافحة الاتّجار بالبشر التابع للحكومة، تذكر إحدى المناسبات حين التقطت الشرطة ثلاث حمولات شاحنة صغيرة من الشباب خارج لندن. تقول “كانوا يعيشون في ظروف فظيعة. كان يتم نقلهم من مكان إلى آخر عن طريق شاحنة صغيرة، لكنهم كانوا غاضبين تقريباً أنه تم توقيف عملهم”.
“لم يُدركوا أنهم لن يتلقّوا أي أجر. بعد ذلك دخلت حافلتان صغيرتان والرجال الذين ترجّلوا منها كانوا غير مُرتّبين، وأحذيتهم رطبة، ولم يغتسلوا، وكانت لديهم إصابات لم تتم مُعالجتها. بإمكانك أن ترى هؤلاء الشباب ينظرون إليهم، بعد أن كانوا في الوضع نفسه مثلهم، عندها أدركوا الوضع”.
تُضيف ريد “هذا يختلف عن أي جريمة أخرى، حيث يكون لديك بضائع تبيعها ثم تختفي (…) بمجرد أن تُمسك بالبشر، يُكون بالإمكان بيعهم مراراً وتكراراً”.
هذا ليس موطن الجاذبية الوحيد بالنسبة إلى المُهرّبين: إدخال البضائع البشرية إلى البلاد أمر أقل إثارة للمشكلات من المُنتجات المحظورة مثل المخدّرات أو الأسلحة.
يقول كبير مُحقّقي التفتيش، فيل بروير، الذي يترأس وحدة الاتّجار بالبشر والخطف في شرطة لندن “إن محاولة تهريب خمسة كيلو جرامات من الكوكايين إلى المملكة المتحدة ليست بالأمر السهل”. ويضيف، مُشيراً إلى شركة الطيران الهنغارية منخفضة التكاليف، “لكن وضع شخص على متن رحلة طيران لشركة ويز إير أمر مختلف”.
غالباً ما يشعر الضحايا بالقلق من الذهاب إلى السلطات، خوفاً من الترحيل، في حين إن العاملين في مجال الرعاية الصحية والشرطة بحاجة إلى مزيد من التدريب لتحديد حالات العمل القسري، أو أي شكل آخر من أشكال الاستغلال الجنائي. ويستنتج بروير أنها “جريمة ذات مخاطر منخفضة ومكافآت مرتفعة”.
وأصبحت جهود الحكومة لمكافحة الاتّجار بالبشر ذات مستوى أعلى، مع إقرار وتفعيل قانون العبودية الحديث، الذي تُشيد به ماي باعتباره سابقة ـ أول تشريع أوروبي يستهدف الاتّجار بالبشر والعمل القسري في القرن الحادي والعشرين.
الأمر الجديد في هذا القانون هو نطاقه الشامل. فهو يُطلب من جميع الشركات التي تعمل الآن في المملكة المتحدة، مع حجم مبيعات يزيد على 36 مليون جنيه، نشر ملاحظة على مواقعها الإلكترونية تذكر فيه أنها تتّخذ إجراءات للقضاء على الاتّجار بالبشر في سلاسل التوريد الخاصة بها – ربما خطوة كبيرة نظراً للخلافات الماضية والحاضرة على حد سواء حول الحصول على مصادر خارجية لتصنيع البضائع، مثل الشكولاتة، والمنسوجات، والمأكولات البحرية.
لكن ليست هناك أي عقوبة مالية، أو جنائية للشركات التي تفشل في ضمان أن المورّدين الذين تتعامل معهم يتجنّبون استخدام العمل القسري – وهو إغفال يُبرّره أنصار القانون بالقول “إنه يُعزّز روح التعاون بدلاً من التقاضي”. في الوقت نفسه، اعتمد المُهرّبون حيلا لتجنّب الكشف والملاحقة القانونية. تقول وحدة مكافحة الاتّجار بالبشر في شرطة لندن، “إن بعض العصابات الجنائية تُجبر الضحايا على سرقة الأشياء الثمينة من المتاجر وأماكن أخرى، تاركةً أحد أفرادها ليتم اعتقاله في حين يهرب الآخرون مع بضائع تساوي آلاف الجنيهات. ويتم إخبار كبش الفداء بأن المكافأة موجودة في المستقبل القريب إذا احتفظ بصمته، وعدم وجود شاهد يُعرقل أي تحقيق للشرطة. والخطر في إعادة الاتّجار بهم نادراً ما يختفي”. بمجرد أن يتم تحديدهم رسمياً بأنهم ضحايا الاتّجار بالبشر، يتم ضمان العمّال مثل تاماس وبينس لمدة شهر ونصف الشهر فقط في منزل آمن، بعد ذلك، في كثير من الأحيان، يعودون إلى الشوارع.
يقول فيل كلايتون، الذي يعمل مع الضحايا في جمعية سيتي هارتس الخيرية “الجميع يُريد الاعتناء بالناجين لمدة أطول، لكن نظراً لعدم وجود التمويل اللازم بعد فترة الـ 45 يوما التي يُقدّمها نظام الدعم الحكومي، هذا أمر صعب للغاية”. ويعتقد أن أفضل طريقة هي العودة إلى الوطن.
ويضيف “نحن نبذل قُصارى جهدنا لنرى الناس يعودون إلى ديارهم، لأنه عندها على الأقل نعلم أنهم يعودون إلى بر الأمان، لكن هناك بعض الناس الذين يختارون التشرّد. لا تزال هناك فكرة أن الشوارع في المملكة المتحدة معبدة بالذهب”.
ويصف كلايتون كيف وضع أخيرا خيارين أمام أحد ضحايا الاتّجار: أن يُصبح مُشرّداً في المملكة المتحدة، أو يحاول بناء حياته في موطنه بمساعدة من منظمة الدعم.
ويتذكر “قال (ما رأيكم في الخيار الثالث التالي؟ أبقى هنا لمدة ستة أسابيع، ثم يُمكنك أن تُعيدني بالحافلة إلى برادفورد وسأعود إلى الناس الذين كنت معهم من قبل؛ على الأقل سيمنحوني مكاناً لأنام فيه وقليلا من المال في نهاية الأسبوع)”.
سارت الأمور بشكل أفضل بالنسبة إلى الرجلين الهنغاريين اللذين جاءا إلى المملكة المتحدة في عام 2011. زحف بنيس من خلال نافذة مفتوحة للهرب من وظيفته، ومن ثم ساعد تاماس على التحرّر من المُهرّبين أيضاً.
جيش الإنقاذ منحهما الإقامة بشكل مؤقت، وتأهل الرجلان للحصول على إعانات المملكة المتحدة، وبدآ دروسا لتعلّم اللغة الإنجليزية. تاماس كافح في البداية، لكن جميعة سيتي هارتس الخيرية اشترت له دراجة هوائية، الأمر الذي منحه الحرية للبحث عن عمل. واستبدل طبيب أسنان في خدمة الصحة الوطنية أسنانه المُتحلّلة.
لكن المُهرّبين الذين فتحوا عن طريق الاحتيال حسابات مصرفية بأسماء تاماس وبينس، لم تتم مقاضاتهم لسرقة هوياتهما، فضلاً عن عملهما. فقد نُصِح الرجلان الهنغاريان بأنه يُمكن تجريمهما في حال رفعا قضية ضد المجرمين، لذلك قرّرا عدم المضي قُدماً.
كان ذلك مجرد حيلة أخرى من حيل المُهرّبين، معاملة مُهينة أخرى يُعانيها المهاجرون الذين بالكاد هم مرئيون، والذين تم استهداف أعدادهم المُتزايدة من قبل جريمة القرن الحادي والعشرين الأكثر شيوعاً.