كتبت كلير شكر في صحيفة “السفير”:
تتعامل القوى اللبنانية مع مبادرة سعد الحريري الأخيرة على أنّها قائمة، الى أن يحلّ محلها طرح بديل. وطالما أنّ هذا البديل لم يولد بعد، فهي ستظلّ حية ترزق، ولو أنّ مفاعليها معلقة وبقعة زيتها مطوّقة، بانتظار تحرّك نقلة ما على رقعة الشطرنج اللبنانية، سواء أتت من الداخل أم من الإقليم.
الإبقاء على خطوط التواصل مفتوحة بين بيت الوسط وبنشعي، والتأكيد أمام الحلفاء عن رفض التخلي عن ترشيح سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية كمعبر وحيد لوضعّ حدّ للشغور في بعبدا، أكثر من دليل على إصرار «تيار المستقبل» بجناحه «الحريريّ» على ضخّ المقويات في جسد المبادرة التي وضعت في الثلاجة بفعل الممانعة المسيحية.
الكل عاد الى موقعه، لكن الهزّة التي أحدثها تفاهم باريس الثنائي، تركت الرمال متحركة، بعدما قُلبت قواعد «الاستحقاق الذهبي» رأساً على عقب، وصارت حسابات القوى، في كلا الضفتين، مختلفة.
هكذا، تُفهم التسريبات التي تتسلل، عن قصد، من أروقة معراب، ملمحة الى نية «القوات اللبنانية» الردّ على «النيران الصديقة» التي أتتها من «البيت الأزرق» بـ «ضربة معلم» تحملها الى ترشيح ميشال عون ردّاً على ترشيح القطب الزغرتاوي، في خطوة ما كان المسيحيون يعتقدون يوماً أنّها قد تخطر على بال أو على خاطر.
عملياً، لا تزال هذه الأفكار «الانتقامية» مطروحة، وإن كانت لا تزال في بدايتها، وقد لا ترى النور. ولكن ما دام سليمان فرنجية لا يزال صاحب حظّ في الوصول الى القصر الرئاسي بقوة دفع من جانب «تيار المستقبل»، فإنّ «القوات» ستذهب أكثر في تثبيت هذا الطرح، ونقله من الغرف المغلقة الى الفضاء العام، بعد تأمين كل خطوط الرجعة.
طبعاً، لن يكون سهلاً أن يقف جعجع بوجه موجة التأييد لرئيس «المردة» خصوصاً إذا استمرت السعودية بموقفها الداعم لهذا الترشيح، ويسبح هو بالاتجاه المعاكس ليزيد من حظوظ ميشال عون، الذي يُفترض أنه لا يزال خصماً وبينهما مسافات من الاختلافات السياســية، الاستراتيجية قبل التكتية.
ومع ذلك، ثمة من يقول إنّ الرجل يحسبها جيداً، ويزين الأمر بميزان الذهب الذي يعرف جيداً أنّ هامش المناورة فيه يكاد يكون معدوماً، لأنّه خيار حاد، إما يربح معه كل شيء، وإما يخسر كل شيء. طبعاً، هو سيحاول أن يربح كل الأوراق المتاحة أمامه من دون تكبيد نفسه خسائر قاتلة، وإلا فإنه لن يقدم على أي شيء.
لا حاجة لمن يذكّره أنّ مساراً من هذا الحجم والنوع، في أن يضع ورقة ميشال عون في صندوقة الاقتراع، سيكلفه الكثير، في حال قرر التفرّد بهذه الخطوة ومن دون غطاء إقليمي يحميه، وهو يعرف جيداً أنّ تمرده على قرار السعودية قد يسقط عنه «ورقة التوت» الإقليمية وهي حاضنته الوحيدة الى الآن.
ولهذا، فإنّ الاعتقاد سائد أنّ رئيس «القوات» لن يقدم على خطوة من هذا النوع إلا في حال كان الخيار أمامه محصوراً بين سليمان فرنجية وميشال عون، بمعنى نضوج طبخة القطب الزغرتاوي لدرجة دفعه الى البحث عن «مخارج» جدية تقيه شرّ وصول الأخير الى القصر الرئاسي.
كما أنّه قد لا يقوم بهذه الخطوة «التمردية» أيضاَ اذا لم ينجح في إقناع الرياض بهذا الخيار، بمعنى أنه ليس من الضروري أن يكون تمييله دفة رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» الرئاسية، على حساب علاقته بالسعودية، لأنه قد يحاول أن يجمع بين طرفيّ العصا.
وحتى على مستوى علاقته مع سعد الحريري. لا يفكر جعجع في نسف هذه العلاقة ولا في تدميرها، ومن سمع ملحم رياشي يزكّي الحريري الى رئاسة الحكومة، «حتى لو كان بشار الأسد رئيساً»، لتأكد أنّ «القوات» لا تضع أبداً في حساباتها إمكانية التخلي عن حلفها مع «تيار المستقبل».
هكذا، يُفهم أنّ معراب تفكر في مستقبلها المسيحي أولاً وأخيراً، وقد صار هاجساً وطموحاً لقيادتها بعدما ثبتّت قدميها مع العالم العربي والإسلامي، فتحوّلت الى الداخل للعمل على توسيع دائرة حضورها في الشارع المسيحي، فكان «إعلان النوايا» جسر عبورها.
ولهذا هناك من يتحمس لوقوف جعجع الى جانب «خصمه التاريخي» ميشال عون في معركته الرئاسية، على اعتبار أنّها ستكون «إنجاز العمر» في حال تحققه، لا سيما أنّ «إعلان النوايا» كان بمثابة شبكة أمان يسمح بالقيام بهذه الخطوة وهو نصّ بالحرف الواحد على ضرورة انتخاب «رئيس قوي ومقبول في بيئته»، ما يعني أنّ هذا التفاهم الرئاسي في حال لو تمّ، لن يكون انقلاباً على الخيارات السياسية، كما هو الحال بين الحريري وفرنجية.
بالنسبة للمتحمسين، فإنّ هذا الخيار لا يفترض أن يواجَه بالرفض المطلق، ربما بالامتعاض، من جانب قواعد قوى 14 آذار، كما حصل في الشارع السني المتململ من القفزة في الفراغ التي نفذها «شيخه» حين قرر الانتقال من مقلب الرئيس الوسطي الى مقلب رئيس من عمق قوى «8 آذار».
كما لا يفترض أن تكون السعودية رافضة له تحت عنوان «حماية» اتفاق «الطائف»، كما يقول البعض، ذلك لأنّ «اعلان النوايا» أقر الالتزام بوثيقة الوفاق الوطني بشكل لا لبس فيه. وهنا يُنقل عن فؤاد السنيورة قوله أمام وفد قواتي إنّ «الإعلان» سحب وللمرة الأولى اعترافاً خطياً من رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» باتفاق الطائف.
ومع ذلك، أن يتفاهم عون وجعجع على الرئاسة، وأن ينزل الأخير أوراقه الاقتراعية لمصلحة الأول، لن يؤديا حكماً الى وضع عباءة الرئاسة فوق كتفيّ الجنرال، ولكنهما سيتوجان «الحكيم» بطلاً في الشارع المسيحي.. وهذا مراده.
ولهذا يرى بعض الخبثاء، أن هذا الطرح لا يتعدى كونه مناورة ذكية، تهدف بالدرجة الأولى الى تعطيل ترشيح فرنجية إذا استمرت الممانعة المسيحية، وإلى تقوية عزيمة ميشال عون ومساعدته على التمسك بترشيحه، من دون أن يعني ذلك «ترئيسه». ما قد يؤدي في المحصّلة الى إحراق الترشيحَيْن.