إذا كان هناك صوت واحد يصور الطبيعة المحمومة للمحادثات التي أدت إلى إبرام اتفاق التغير المناخي في باريس نهاية الأسبوع الماضي، فإنه كان صوت ورود رسالة عبر “الواتساب”.
استُخدِم تطبيق الهواتف الذكية للمراسلة الفورية من قبل عشرات المندوبين الذين يمثلون 195 بلدا معنيا بالمشاركة في المفاوضات. وفي حين كان الأخذ والرد حول الاتفاق يدخل في سلسلة من الاجتماعات الخاصة، تلقى مندوبو كثير من البلدان تيارا من رسائل “الواتساب” في إطار التشاور مع دولهم.
وتباينت مواقف الدول بصورة كبيرة الهدف المتمثل في ألا ترتفع درجات الحرارة العالمية أكثر من 1.5 درجة مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية. ففي حين اعترضت بعض الدول على ذلك، أصرت أخرى على أنه يجب أن يكون ضمن الميثاق.
ولأن درجة الحرارة ارتفعت بالفعل درجة مئوية واحدة تقريبا، بالتالي الوفاء بهدف 1.5 درجة مئوية من شأنه أن يتطلب انخفاضا سريعا “أكبر كثيرا من قبل” في انبعاثات ثاني أكسيد الكربون الحابسة للحرارة، فيما لو تمسكت الحكومات بهدف إبقاء الزيادة في درجات الحرارة دون مستوى درجتين مئويتين، المتفق عليها في محادثات الأمم المتحدة للمناخ في عام 2010.
الوصول إلى الهدف المتمثل في درجتين مئويتين يعني أن الانبعاثات المتصلة بالطاقة بحاجة إلى أن يتم خفضها إلى الصفر بحلول عام 2060 أو 2070 تقريبا، وفقا لنيكلاس هونه، مؤلف أحدث تقرير صادر عن الفريق الحكومي الدولي المعني بقضية التغير المناخي، التابع للأمم المتحدة. يقول هونه “لتحقيق هدف 1.5 درجة مئوية، ينبغي لك أن تكون عند مستوى الصفر في عام 2050 تقريبا”.
في النهاية، قالت اتفاقية باريس “إن على البلدان أن تستهدف الحفاظ على درجات الحرارة أقل من درجتين مئويتين، ومواصلة الجهود الرامية إلى تقليصها إلى مستوى 1.5 درجة مئوية”. كان ذلك واحدا من سلسلة من التنازلات خلال الساعات الأخيرة المحمومة من محادثات مؤتمر COP21 التي نتج عنها في النهاية إبرام صفقة كبرى بين الدول ذات الاقتصادات المختلفة إلى حد كبير حول الطريقة الأعدل للتصدي لمشكلة التغير المناخي العالمي.
السؤال الآن هو، هل بإمكان هذا الميثاق – الذي نتج عن مثل هذه المساومات والمليء بالشروط غير الملزمة – بالفعل تحقيق خفض كبير بشكل كاف في الانبعاثات لكبح جماح درجات الحرارة التي في سبيلها إلى رفع حرارة العالم ثلاث درجات مئوية أو أكثر بحلول نهاية هذا القرن؟ يقول العلماء إن زيادة بهذا الحجم قد تكثف من مخاطر حدوث عواصف عاتية وموجات حر لا تحتمل وارتفاع في مستويات البحار وذوبان للقمم الجليدية.
كانت الأمم المتحدة تحاول تنسيق الاتفاق العالمي للحد من الانبعاثات منذ أكثر من 20 عاما، بدءا باتفاق عام 1992 الذي تم إبرامه في ريو دي جانيرو. وأعقب ذلك بروتوكول كيوتو في عام 1997، وهو معاهدة كانت تتطلب من البلدان الغنية فقط خفض التلوث الكربوني لديها، والمحاولة الفاشلة في إبرام اتفاق جديد في كوبنهاجن في عام 2009.
وقود للناشطين
يختلف اتفاق باريس عن الجهود المبذولة سابقا من عدة جوانب. هدفه الجديد المتمثل في 1.5 درجة مئوية يعد طموحا فقط والوفاء به يتطلب إجراء تخفيضات كبيرة في الانبعاثات ونموا غير مسبوق في تكنولوجيات الطاقة المتجددة الموجودة. لكن آثاره سيغتنمها المدافعون عن البيئة الذين ترجموا بالفعل هدف درجتين مئويتين إلى سلسلة من حملات تسليط الضوء على كمية الفحم والغاز والنفط التي تلزم بأن تبقى غير محترقة إذا كان يتعين الوفاء بمثل هذا الهدف.
الشيء نفسه ينطبق على هدف آخر في الاتفاق لتحقيق التوازن في النصف الثاني من هذا القرن بين غازات الدفيئة التي هي من صنع الإنسان، ومصارف امتصاص الكربون، كالغابات. أما الفرق الكبير الآخر بين ميثاق باريس والاتفاقيات السابقة فهو أنه يتطلب عمليا من كل بلد في العالم، وليس فقط البلدان الغنية، أن تنشر خطة مناخ كل خمس سنوات، ربما ابتداء من عام 2020.
أي هدف موجود في الخطط المناخية المذكورة، كهدف الولايات المتحدة خفض الانبعاثات بحلول عام 2025 ما لا يقل عن الربع عن المستوى الذي وصلت إليه في عام 2005، أو هدف الصين بأن تسمح بوصول انبعاثاتها إلى الذروة بحلول عام 2030، لا يكون ملزما قانونيا بالنسبة إلى البلدان الموقعة على الاتفاق. لكن الخطط في حد ذاتها إلزامية، كما هو نظام الأمم المتحدة الأقوى لرصد انبعاثات البلدان وتقييم طريقة الحد منها.
لقد رأينا بالفعل ما يحدث عندما تتم دعوة البلدان فقط لنشر الخطط الطوعية، كما كانت خلال الفترة التي سبقت اجتماع باريس. أكثر من 180 دولة فعلت هذا، لكنها تخطط فقط لخفض الانبعاثات إذا استمر اقتصادها في النمو.
الصين التي تمثل 27 في المائة من التلوث الكربوني العالمي، كانت مترددة في دعم هدف الـ 1.5 درجة مئوية وغيره من التدابير المدعومة من قبل مجموعة من البلدان بقيادة دول جزر صغيرة – وهي الأكثر عرضة لمخاطر ارتفاع مستويات البحار – التي تسمي نفسها “تحالف الطموح المرتفع” في مجموعة COP21.
وقبل يوم فقط من اعتماد الاتفاق، رفض ليو زينمين، نائب رئيس الوفد الصيني، هذا التحالف باعتباره “نوعا من الأداء” أو حيلة.
لكن المجموعة ضمت الولايات المتحدة، ثاني أكبر مصدر للانبعاثات، التي أدت دبلوماسيتها بزعامة جون كيري، وزير الخارجية والمدافع عن إجراءات المناخ منذ فترة طويلة، إلى إعلان كل من واشنطن وبكين معا عن خطط مناخية في أواخر العام الماضي – وهذا قرار أثار في ذلك الوقت الآمال بأن يتم إبرام اتفاق باريس.
الاختراق لأكبر دولتين
في النهاية ثبت أن العلاقة بين الولايات المتحدة والصين حاسمة بالنسبة إلى اتفاق السبت الماضي. في لحظات التوتر قبل توقيع الاتفاق، كان من الممكن أن ينتهي الأمر بالفشل، لكن الصين أظهرت أنها رغم خطابات المسؤولين العامة تريد أن تمضي الاتفاقية قدما.
وبينما كان وزير الخارجية الفرنسي، لورين فابيوس، يستعد لتفجير مفاجأة حول اعتماد هذا الاتفاق يوم السبت، سادت حالة من الذعر بعد أن شاهد الوفد الأمريكي النص النهائي، الذي صاغه في ساعات الصباح الأولى المسؤولون المنهكون.
على عكس النسخ السابقة، التي قالت “ينبغي” للبلدان المتقدمة اتخاذ زمام المبادرة في محاربة التغير المناخي، نصت هذه الاتفاقية على أن هذه البلدان “يجب” أن تضطلع بأهداف لخفض الانبعاثات. من الناحية القانونية كان هذا تغييرا إشكاليا بالنسبة لإدارة الرئيس أوباما التي ترغب في توقيع الصفقة الجديدة باعتبارها أمرا تنفيذيا بدلا من تقديمها إلى مجلس شيوخ معادٍ لنيل الموافقة.
ألقى كيري نظرة وقال “لا يمكننا فعل هذا ولن نفعله. إما أن يتغير وإما أن الرئيس باراك أوباما والولايات المتحدة لن يكونا قادرين على دعم هذه الاتفاقية”.
عندها استغلت مجموعة من وفود الدول النامية، التي كانت لا تزال غير مرتاحة للاتفاق، الفرصة للإعلان عن عدم تقبلها لأي تغييرات. لكن بينما تجمع المبعوثون في قاعة المؤتمر لمحاولة تخفيف هذه المشكلة، تدخل تشيه تشن، كبير مفاوضي المناخ في الصين.
تقول لورنس توبيانا، سفيرة مجموعة COP21 في فرنسا “قال (توقفوا عن ذلك الآن، نحن نريد هذه الاتفاقية، لا تتلاعبوا معنا، هذا ليس عدلا). بناء على ذلك تم تغيير النص. حلت “ينبغي” مكان “يجب”. وقالت توبيانا لـ “فاينانشيال تايمز”، “من دون تشي، كان من الممكن ألا نبرم الاتفاق”.
كان الارتياح في قاعة المؤتمر عميقا. النتيجة الفورية الأهم لاتفاق باريس هي أنه لم يكن تخبطا آخر مثلما حدث في كوبنهاجن. في أعقاب ذلك الفشل استمرت الحكومات في إطلاق سياسات تتعلق بالمناخ، لكن موقف المعارضين تعزز بسبب عدم وجود اتفاق عالمي يلزم جميع البلدان باتخاذ إجراءات مماثلة.
المفارقة في مفاوضات الأمم المتحدة للمناخ، حيث يكون لجميع البلدان تصويت متساو، هو أنها تتجه إلى إبرام اتفاقيات وسطية بالغة الخطورة مع فرصة محدودة لوجود أثر إيجابي لها في خفض الانبعاثات. لكن يمكن أن يكون لها وبسهولة تأثير سلبي في مثل هذه الجهود، إذا فشلت بالطريقة نفسها التي فشل بها مؤتمر كوبنهاجن في عام 2009.
يقول بول مارتي، وهو مسؤول ائتمان أعلى في وكالة موديز، “لو كانت اتفاقية باريس فشلا مثلما حصل في كوبنهاجن، لربما أثرت حتى في رواد سياسات المناخ مثل الاتحاد الأوروبي، موطن أكبر سوق للكربون في العالم وبعض الإعانات الأبكر في الطاقة الشمسية”.
ويضيف “من المرجح أنها كانت ستعمل على تقويض سياسات التقليل من الكربون طويلة الأجل والأهداف الخاصة بالاتحاد الأوروبي على أساس أنه إذا كانت بقية العالم لا تبذل كثيرا من الجهود، فلماذا يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى بذل مزيد من الجهود”.
إعلان عن النوايا
كان الأثر المباشر للاتفاق متفاوتا. الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند كان أول زعيم يقول “إن حكومته ستعيد النظر في أهدافها القائمة المتعلقة بالمناخ قبل عام 2020 في أعقاب اتفاق باريس”، لكن لم يكن هناك عدد كبير من الدول الأخرى التي أظهرت أي علامة تشير إلى رغبتها في الانضمام إليه.
ارتفعت الأسهم في عدد من شركات طاقة الرياح والطاقة الشمسية في أوروبا وأمريكا الشمالية يوم الإثنين، وقفزت أسهم شركة سولار سيتي، التابعة لإيلون ماسك، أكبر شركة لتركيب أجهزة الطاقة الشمسية السكنية في الولايات المتحدة، بنسبة 12 في المائة.
وبحسب كثير من المختصين في السوق كان من المرجح أن يكون الارتفاع مؤقتا، لكن محللي بنك باركليز يتوقعون أن يعمل الاتفاق على “تسريع نشر مصادر الطاقة المتجددة وغيرها من مصادر الطاقة منخفضة، أو معدومة الكربون”.
الاستجابة الأولية لشركات النفط والغاز كانت التغاضي الواسع، لكن بعض مجموعات صناعة الفحم كانت أكثر قلقا إزاء الآثار المترتبة على ذلك، خاصة الهدف المتمثل في الوصول إلى 1.5 درجة مئوية.
يقول بريان ريكيتس، أمين عام يوروكول، وهي هيئة تجارية تمثل صناعة الفحم في الاتحاد الأوروبي “قد يكون 1.5 درجة مئوية هدفا، لكنه يعني أن المنظمات غير الحكومية ستكون في سعي دؤوب نحو التخلص التدريجي الكامل من الوقود الأحفوري وبسرعة كبيرة، ما يعني أننا سنتعرض للكراهية والذم بالطريقة نفسها التي كانت تتعرض لها تجارة الرقيق”.
كان من “الغريب” التفكير في أن شركات الفحم يمكنها تغيير نماذج الأعمال التجارية لديها للتكيف مع مثل هذه الأهداف، بحسب ما يقول، مضيفا أنه “يخشى من أن حكم الغوغاء الناشطين في مجال المناخ كان بالفعل يحل محل سيادة القانون في بعض البلدان وأن اتفاق باريس قد يؤدي إلى تفاقم هذا التوجه”.
ويقول سائر المسؤولين التنفيذيين في مجال صناعة الفحم “إن الاتفاق ينبغي أن يعزز حجتهم بأن أهداف المناخ الأكثر صرامة ينبغي أن تتم ترجمتها إلى مزيد من الدعم المقدم إلى التكنولوجيات مثل أنظمة تخزين الكربون التي تسمح بحرق الوقود الأحفوري دون إلحاق الضرر بالمناخ”.
لكن ربما لن يمر وقت طويل قبل أن تتنافس مثل هذه الأنظمة ضد التكنولوجيات الأحدث التي تلغي الحاجة إلى الفحم والغاز والنفط معا.
هذا هو ما يرجوه بيل جيتس، مؤسس “مايكروسوفت”، الذي أعلن في مؤتمر COP21 في باريس أنه شكَّل مع غيره من أصحاب المليارات فريقا للحصول على ابتكارات للطاقة النظيفة الوليدة من المختبر إلى السوق. وهذا الفريق سيعمل مع 20 بلدا، بما فيها الولايات المتحدة والصين، متعهدا بمضاعفة إنفاقه الكلي البالغ عشرة مليارات دولار على أبحاث الطاقة النظيفة والتنمية على مدى السنوات الخمس المقبلة. ومثل هذه المبادرات هي التي يمكن أن تقدم مزيدا في خاتمة المطاف للوفاء بأهداف اتفاقية باريس أكثر من الاتفاق نفسه.
في النهاية، من المستحيل معرفة ما إذا كان الميثاق سيجعل هذا القرن آخر قرن نستمد فيه الطاقة من مصادر الوقود الأحفوري. حتى أوباما، وهو من أقوى أنصار الاتفاقية، أقر يوم السبت بأن الاحتباس الحراري “لن يصبح محلولا بسبب هذا الاتفاق”. لكنه جادل بأن الاتفاق يضع بالتأكيد “الأساس المعماري بالنسبة إلينا من أجل الاستمرار في التصدي لهذه المشكلة على نحو فعال”.
ربما كان هذا هو كل ما نستطيع أن نتوقعه من محادثات الأمم المتحدة التي استغرقت أكثر من 20 عاما حتى تصل إلى هذه المرحلة، وربما تستغرق 20 عاما أخرى للبدء في إصلاح مشكلة تبين حتى الآن أنها غير قابلة للحل.