IMLebanon

بين الرئاسة والشارع

michel-aoun

 

كتب شارل جبور في صحيفة “الجمهورية”:

ماذا لو خُيّر «حزب الله» بشكل واضح بين رئاسة الجمهورية والشارع المسيحي؟ فهل يبدّي الرئاسة على حساب الشارع أم العكس؟ وهل هو بحاجة لغطاء رئاسي أم غطاء شعبي؟ وما تداعيات الخيار الذي يمكن أن يعتمده؟ وهل يمكن أن يربح الشارع والرئاسة معاً؟أسّسَ التحالف بين العماد ميشال عون و«حزب الله» لأوّل انعطافة جوهرية في تاريخ المسيحيين في لبنان من التوجهات الفكرية والعقائدية والبديهية والفطرية والغرائزية ضد كلّ ما هو عروبي وحدوي وسوري إلحاقي، إلى التوجّهات التي ترى في التحالف مع النظام السوري وإيران وروسيا و«حزب الله» مصلحة مسيحية.

وعلى رغم القناعة المسيحية بأنّ الغرب لم يقدِّم شيئاً للمسيحيين، إنّما كانوا يشعرون دوماً بأنّ الخطر على وجودهم مصدرُه الشرق، وبالتالي لم تكن المفاضلة يوماً بين الغرب والشرق، بل تحصين حضورهم من القوى التي تعمل على ضرب الدولة التي ساهموا بتأسيسها في لبنان تحت عناوين وحدوية حيناً، وإلحاقية استتباعية أحياناً.

فالخيار اليساري والعروبي والقومي وكلّ ما يُشتقّ من هذه التشكيلات كان دائماً خياراً أقلّوياً داخل البيئة المسيحية، وكلّ مَن اعتمد من المسيحيين هذا الخيار كان كمَن يعزل نفسَه عن الأغلبية الساحقة من الشارع المسيحي، والتجربة التي قادها الشهيد إيلي حبيقة شكّلت أقوى دليل بأنّه حتى خليفة بشير الجميّل في قيادة «القوات اللبنانية»، وهو القائد التاريخي لدى المسيحيين، لا يستطيع أخذَهم إلى خيارات تتناقض مع كلّ منظومتهم الفكرية وحتى النفسية.

وحدَه ميشال عون «نجَح» بنقل المسيحيين من خيار إلى خيار، ومن توجُّه إلى توجُّه، محوّلاً الخيار الأقلوي تاريخياً إلى خيار أكثري نسبياً، ما شكّلَ صدمةً وكارثة، ومردُّ الصدمة إلى أنّ أحداً لم يكن يتوقّع هذا الانقلاب في المزاج المسيحي، وأمّا الكارثة فمردُّها إلى أنّ هذا الخيار يعني نهاية لبنان السيادة والاستقلال والدولة.

فالتحالف مع «حزب الله» شكّلَ خروجاً عن ثوابت المسيحيين التاريخية، وانقلاباً على الوجدان المسيحي، وضرباً لكلّ المفاهيم الوطنية والسياسية التي أرسَوها منذ ما قبل لبنان الكبير وبعده، وتخَلّياً عن المشروع الذي وحده يَكفل تميّزَهم واستمرار وجودهم وهو الدولة في لبنان، وذلك لمصلحة مشروع لا يرى في لبنان سوى ساحة من ساحات الجهاد والمواجهة مع العالم.

وعلى رغم تراجُع شعبية عون بين انتخابات العام 2005 وانتخابات العام 2009 من 75% إلى ما دون الـ 50% نتيجة وثيقة التفاهم في شباط 2006، إلّا أنّه «نجَح» في الحدّ من الخسائر ووقف التراجع عند حدود معيّنة وكبيرة، الأمر الذي يُعدّ خرقاً استراتيجياً على مستوى الوجدان المسيحي.

وهذا الواقع لا يستطيع أحد إنكارَه وإغفاله، فيما كلّ الجهد يتركّز منذ العام 2006 على كيفية إعادة المسيحيين إلى خيارهم التاريخي، ليس كحلفاء لهذا الطرف الداخلي ضد ذاك، إنّما كرافعة سياسية لخيار لبنان أوّلاً، والدولة أوّلاً، وبالتالي التحدّي الأساسي كان وما زال بكيفية إعادة القديم إلى قِدمه.

ومن هنا وصولُ عون إلى رئاسة الجمهورية يؤدّي إلى تعزيز هذا التوجّه وتقويته وترسيخه، أي جعلِه حالةً ثابتة من الصعوبة بمكان تغييرُها وتعديلها

وقلبُها، فيما المصلحة المسيحية العليا تقتضي إضعافَ هذا التوجّه بغية استعادة المسيحيين خياراتهم التاريخية، وعودة الفرز بين أكثرية مسيحية ساحقة ضد الخيار الممانع الذي يشكّل استكمالاً للثورة الناصرية والفلسطينية والسورية، وأقلّية مع هذا الخيار لا تقَدّم ولا تؤخّر.

وما أرساه عون داخل البيئة المسيحية من الصعوبة تبديلُه، بل سيتحوّل إلى خط ثابت ومتوارث إلّا في حالة واحدة وهي أن يعمدَ العماد عون بنفسه إلى التخلّي عن هذا الخيار بعد تخلّي «حزب الله» عنه. فالحزب لن يستطيع الاحتفاظ بالشارع المسيحي إذا لم ينتخب عون رئيساً، وبالتالي عليه أن يختار بين الشارع والرئاسة.

وأيّ رئيس لن يستطيع أن يقدّم شيئاً إضافياً للحزب الذي اختبَر الرئيس الحليف، والرئيس التوافقي ومن ثمّ الخَصم، وهو ليس أصلاً بحاجة لضمانات من أحد، وبالتالي خسارته الرئاسة من خلال إيصال حليف من صفوفه لا تشكّل خسارة، لأنّ أيّ رئيس لا يستطيع أن يحكم إذا انحاز ضدّه أو ضد السنّة، والتجربة أكبر برهان مع الرئيسين إميل لحّود وميشال سليمان، بل أيّ رئيس من صفوفه عليه أن يقدّم التطمينات للفريق الآخر، فيما الرئيس التوافقي يشكّل مصلحة للجميع.

فالحزب لا يخسَر شيئاً إذا لم يوصِل رئيساً من صفوفه، إنّما يخسر كثيراً إذا تخلّى الشارع المسيحي العوني عنه، هذا الشارع الذي قدّم السيّد حسن نصرالله على كلّ قياداته التاريخية والحاضرة، وآمنَ بمشروع المقاومة ودافعَ عنه، واعتبَر أنّ التحالف مع الحزب يشكّل صمّام أمان للمسيحيين ولبنان.

وإذا كان من إيجابية وحيدة للتسوية الرئاسية فتَكمن بأنّها ستعيد المناخ المسيحي العوني إلى جذوره وموقعِه الطبيعيَين بَعد مغامرة أو محاولة أخفقَت في الوصول إلى «بعبدا»، ولكنّها نَجحت في توحيد الأكثرية الساحقة من المسيحيين حول الخيارات المسيحية المؤسسة للدولة اللبنانية، مقابل الخيارات التي عادت إلى موقعها الطبيعي كخيارات أقلّوية ولا تمتّ بصِلة إلى نضال المسيحيين وتاريخهم ووجدانهم.