تجمع حشد تحت الأمطار الباردة في ساحة “ميدان” في كييف لإحياء ذكري مرور عامين على احتجاجات في الشوارع انتهت بإسقاط حكومة أوكرانيا المدعومة من موسكو. المزاج العالي الذي كان سائدا في أواخر عام 2013 حل محله شعور بالكآبة.
قالت تانيا، وهي ربة منزل تبلغ من العمر 38 عاما: “هذه هي دموع أبطال هيفنلي هاندريد” وهي تضع الزهور لتكريم العشرات من المتظاهرين الذين قتلوا بنيران القناصة في الأيام الأخيرة من الاحتجاجات التي أسقطت الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. وأضافت: “ما الذي تغير إذا لم يتمكنوا حتى من تقديم الأشخاص الذين كانوا وراء هذه الجرائم للعدالة؟ ليس هناك حتى حرب ضد الفساد. لا يوجد شيء”.
قد لا يكون الأوكرانيون مستعدين بعد للعودة إلى الشوارع بأعداد كبيرة. ولكن بعد عامين من احتجاجات ميدان، تظهر الاستطلاعات أن كثيرا من الناس يتشاركون في شعورا قويا بأن القيادة الموالية للغرب، التي جلبوها إلى السلطة، فشلت في تلبية مطالب المتظاهرين: استراحة من حكم اللصوص، ارتفاع مستويات المعيشة، وسيادة القانون.
هذه المثل الخاصة بالحكومة الأنظف والأكثر فاعلية ترتبط ارتباطا وثيقا بالتحول التاريخي نحو الاتحاد الأوروبي ـ وبعيدا عن هيمنة موسكو ـ التي مثلته ثورة كييف.
جزئيا بسبب رد روسيا العدواني، تطلب هذا منهم ثمنا باهظا. منذ اندلاع الثورة شاهد الأوكرانيون انكماشا في اقتصادهم بلغت نسبته 18 في المائة، وضمت روسيا شبه جزيرة القرم، وأدت الحرب مع الانفصاليين، المدعومين من موسكو في الشرق، إلى مقتل أكثر من تسعة آلاف شخص.
كان الشعور بخيبة الأمل والغضب واضحا خلال احتفال تشرين الثاني (نوفمبر) في ساحة ميدان، حتى أن بعضهم في الحشد دعا إلى عزل بترو بوروشينكو، الذي حل محل يانوكوفيتش رئيسا للبلاد.
عشائر الفساد
مع إيقاف القوات الحكومية زحف المتمردين في الشرق إلى حد كبير، ووصول الركود إلى أدنى مستوياته، يتحول تركيز الجمهور إلى معركة ضد الفساد. بالدرجة الأولى، هذا يعني كسر قبضة الدولة على المصالح الخاصة القوية، بما في ذلك حفنة أصحاب المليارات “القلة” في أوكرانيا. وكانت عشائر الأعمال وحلفاؤها في القيادة السياسية والبيروقراطية قادرين منذ فترة طويلة على التعامل مع النظام الاقتصادي والقانوني من أجل مكاسبهم الخاصة.
قال أحد كبار رجال الأعمال، الذي له علاقات مع أشخاص من رموز جماعة القلة، لـ “فاينانشيال تايمز”: “لم يتغير شيء في البلاد إلى حد كبير”. على قطعة من الورق، رسم رجل الأعمال شبكة من العمولات المزعومة، والرشا، والمنفعة، التي يقدر أنها تؤدي إلى سرقات لا تقل عن أربعة مليارات دولار سنويا.
وأضاف: “نظام خفي لا يزال في المكان الذي توجد فيه مجموعة القلة الرئيسية التي تغذي مثل هذه الطفيليات، في تحالف غير مقدس بينهم (…) والمستويات العليا في الحكومة”.
لا يمكن إثبات صحة جميع مزاعم رجل الأعمال، لكن كبار المسؤولين وجهاز مكافحة الفساد يتفقون على أن الفساد لا يزال متجذرا بعمق. والفشل في الحد من ذلك وإنفاذ القانون يهدد بتمزق الائتلاف الحاكم الهش.
انفجر التوتر إلى العلن في الأيام العشرة الماضية، ما زاد من تأجيج خيبة أمل الجمهور، مع مشاهد هزلية في كييف. في مناقشة برلمانية أمسك أحد النواب بأرسيني ياتسنيوك، رئيس الوزراء، من رجليه وحاول حمله من المنصة في الوقت الذي كان فيه يدافع عن سجله. ثم، في شريط فيديو تم تسريبه، شوهد أحد الوزراء وهو يقذف كوبا على ميخائيل ساكاشفيلي، الرئيس السابق لجورجيا الذي هو الآن حاكم إقليمي في أوكرانيا، ونعت كل منهما الآخر بـ “اللص” في اجتماع لمجلس الرئاسة حول الإصلاح.
كل هذا يغذي حالة عدم الارتياح في العواصم الغربية التي تدعم الحكومة في مواجهة العداء الروسي.
في زيارة إلى كييف هذا الشهر، وجه جو بايدن، نائب الرئيس الأمريكي، رسالة واضحة. قال في كلمة أمام البرلمان: “من أجل أن تواصل أوكرانيا إحراز تقدم، وللحفاظ على دعم المجتمع الدولي، يجب عليها بذل مزيد من الجهد”، محذرا من أن أوكرانيا ربما تواجه “آخر لحظة” لبناء مستقبل أفضل.
ويصر مسؤولون غربيون وأشخاص من داخل الحكومة على أن إدارة ما بعد الثورة في كييف حققت إنجازات رائعة – حتى في الوقت الذي تعترك فيه في حرب في منطقة دونباس. ويتحدث مسؤول أوروبي بارز عن تحريرها للأعمال، وزيادة الشفافية في المالية العامة، واللامركزية، وإصلاح سوق الغاز – التي ينظر إليها منذ فترة طويلة على أنها مرتع للفساد – وإصلاح القطاع المصرفي “المثير للإعجاب”، وكذلك استقرار الاقتصاد الكلي.
ويبذل القادة الموالون للغرب في كييف أيضا جهودا من خلال تدابير تقشفية مؤلمة، بما في ذلك زيادة كبيرة في أسعار الغاز المحلية، كجزء من خطة إنقاذ غربية بقيمة 40 مليار دولار.
لكن الفجوة الكبيرة في سجلهم هي الفشل في إقامة سلطة قضائية مستقلة حقا، فضلا عن المدعين العامين والمحققين الذين يمكنهم وقف حتى كبار رجال الأعمال والمسؤولين والسياسيين بشكل صحيح للمساءلة.
داء الفساد
يخشى المنتقدون أن بوروشينكو، وهو نفسه رجل أعمال من أصحاب المليارات، ياتسنيوك قد لا يكونان قادرين على إصلاح النظام لأنهما من إنتاجه. ويواجه كل منهما الآن اتهامات بوجود علاقات قريبة فوق الحد من شبكات المصالح التجارية.
سيرجي ليستشننو، وهو صحافي تحقيقات، استمر في التحقيق في الفساد رفيع المستوى منذ انتخابه رئيسا للبرلمان في فترة ما بعد تظاهرات ميدان. وكان أحد أهدافه الرئيسية هو ميكولا مارتننكو، أحد أبرز رجال الأعمال والسياسيين في حزب الجبهة الشعبية ـ الذي ينتمي إليه ياتسنيوك ـ الشريك الرئيسي في الائتلاف في كتلة بوروشينكو. نفى مارتننكو المزاعم التي تربط بينه وبين تحقيق سويسري في قضية رشا، وأعلن في الشهر الماضي أنه سيستقيل من البرلمان للحفاظ على التحالف، في الوقت الذي يسعى فيه لإثبات براءته في المحكمة.
ونفى ياتسنيوك أي صلة بالفساد وأشار إلى أن الاتهامات الموجهة ضده هي تكتيكات للتشهير. لكن فضائح الفساد وتأثير رفع أسعار خدمات المنافع (الماء والكهرباء والغاز) التي فرضها صندوق النقد الدولي، وهبوط مستويات المعيشة أدت إلى تآكل شعبيته إلى ما يقارب الصفر.
وانخفض تأييد الناخبين لبوروشينكو، الذي يملك أكبر شركة شوكولاتة وأصولا في وسائل إعلامية وفي قطاع صناعة الآلات في أوكرانيا، إلى النصف. واتهمت وسائل إعلام محلية اثنين على الأقل من رجال الأعمال باستغلال صلاتهم بالرئيس، أو التصرف نيابة عنه في التعاملات التجارية.
ونفى بوروشينكو مثل هذه الروابط، وقال إنه وضع كل مصالحه التجارية تحت سيطرة شركة لإدارة الأصول عندما أصبح رئيسا للدولة.
وتعرض الرئيس للضغط لرفضه طرد فيكتور شوكن، المدعي العام، الموالي منذ فترة طويلة لبوروشينكو. وتم توجيه انتقادات لشوكن لعدم تقديمه القناصة الغامضين الذين قتلوا المتظاهرين إلى العدالة، والمماطلة في التحقيق مع كبار المسؤولين ورجال الأعمال. وحذر جيفري بيات، سفير الولايات المتحدة في أوكرانيا، في كلمة ألقاها في خريف هذا العام، قائلا: “بدلا من دعم الإصلاحات في أوكرانيا والعمل على اجتثاث الفساد، تعمل الجهات الفاعلة لمحاربة الفساد داخل مكتب المدعي العام على جعل الأمور أسوأ عن طريق تقويض الإصلاح علنا وبقوة”.
وفي محاولة على ما يبدو لنزع فتيل هذه الادعاءات، كشف بوروشينكو النقاب عن حملة لمكافحة الفساد في تشرين الأول (أكتوبر)، مع عدد من الاعتقالات من قبل مكتب المدعي العام. وكان من بين المعتقلين حليف سابق ليانوكوفيتش، إضافة إلى زميل لإيجور كولومسكي، أحد عناصر حكومة القلة الذي استقال من منصب حاكم إقليمي هذا العام بعد مواجهة مع بوروشينكو خلال محاولات للحد من نفوذه على شركة النفط الحكومية.
لكن بعد أن تم الإفراج عن الأشخاص المحتجزين ووضعهم في الإقامة الجبرية، ومع استمرار النيابة العامة في الابتعاد الواضح عن جماعة حكومة القلة الآخرين، اعتبر النقاد أن الحملة كانت بمنزلة مسرحية سياسية، إن لم تكن مجرد عدالة انتقائية.
وفي الشهر الماضي عينت لجنة الاختيار، التي تضم نشطاء سابقين في ميدان، مدع مستقل لمكافحة الفساد. وسيستغرق الأمر أشهرا كي يصبح جهاز المدعي المستقبل في مرحلة التشغيل الكامل، جنبا إلى جنب مع مكتب جديد لمكافحة الفساد. وقلة هم الذين يتوقعون تقدما حقيقيا في مسألة سيادة القانون حتى يتم استبدال الآلاف من القضاة الذين يتقاضون أجورا منخفضة ويعتبرون عرضة للفساد.
ويعترف مستشار أجنبي لحكومة أوكرانيا بأن نظرة الرأي العام يعد “سيئة للغاية” لكنه يقول إنه يتأثر بشكل كبير بالقنوات التلفزيونية التي يسيطر عليها أنصار حكم القلة.
نقاط ضعف راسخة
يزعم فاسيل هريتساك، رئيس جهاز أمن الدولة SBU في أوكرانيا، أن بعض جماعات القلة يحاولون تعزيز قبضتهم باستخدام نفوذهم لتشويه سمعة قيادة البلاد، وأنهم يهدفون إلى إسقاط الائتلاف الحاكم واستثارة انتخابات مبكرة.
ويحذر هو ومسؤولون آخرون من أن هذا يناسب خطط موسكو. روسيا، كما يشير هريتساك، غيرت التكتيكات من “الحرب الخاطفة الهجينة” للحرب الانفصالية في الشرق وتحاول بدلا من ذلك استغلال نقطتي الضعف الرئيسيتين؛ الفساد والاستقرار السياسي الهش في كييف. ويحذر: “ليس لدينا ما يكفي من الوحدة السياسية القوية”.
ومع اقتراب عام 2015 من نهايته، تواجه الحكومة تحديات محتملة من النشطاء والبرلمان في آن معا. وفي أول كانون الأول (ديسمبر)، كتب نشطاء وصحافيون كان لهم حضور بارز في مظاهرات ميدان، رسالة مفتوحة إلى بوروشينكو وياتسنيوك. وكان من بينهم ليشتشنكو ومصطفى نعيم، وهو صحافي آخر تحول إلى نائب. ويعود الفضل إلى نعيم في بدء الاحتجاجات قبل عامين، حين كتب تغريدة بعد انسحاب يانوكوفيتش من التوقيع على صفقة الاندماج في الاتحاد الأوروبي. وحثوا القيادة في أوكرانيا على إنهاء ما اعتبرته حملات غير جادة للإصلاح واستئصال الفساد – أو مواجهة ميدان جديد.
وكتبوا: “قبل عامين كان من الصعب بالنسبة لنا أن نتصور أن البيروقراطيين ورجال الأعمال الذين هم على مقربة من القيادة سيستمرون في سرقة البلاد”. وأضافوا: “يرى الناس هذا. الناس يشعرون بالتوتر والقلق بشأن ذلك”.
وفي الوقت نفسه يهدد البرلمان بتقديم اقتراح بسحب الثقة من الحكومة. هذا يمكن، من الناحية النظرية، أن يوفر فرصة لشخصية أكثر راديكالية ومثيرة للجدل لتخطو إلى الساحة السياسية الوطنية في أوكرانيا: ساكاشفيلي.
في ولايتيه رئيسا لجورجيا عقب الثورة “الوردية” في عام 2003، طبق ساكاشفيلي إصلاحات شاملة أخذت الجمهورية السوفياتية السابقة إلى أعلى عشر مراتب في تصنيف سهولة ممارسة الأعمال التابع للبنك الدولي. لكن أطيح به بعد اتهام حكومته بانتهاك القواعد في كثير من الأحيان، وهو الآن يواجه ما يقول إنها تهم فساد ذات دوافع سياسية في جورجيا.
وينظر لساكاشفيلي الذي تم تعيينه محافظا لأوديسا في أيار (مايو) من قبل بوروشينكو، الذي درس معه في كييف في التسعينيات، من قبل كثير من الأوكرانيين باعتباره شخصا أجنبيا قويا قد يكون فقط قادرا على كسر قبضة الفساد والمصالح الشخصية. وقال ساكاشفيلي في مقابلة مع “فاينانشيال تايمز”: “لدينا حكومة ظل وجماعة القلة التي تدير أوكرانيا مثل شركة مساهمة شخصية لها”.
ساكاشفيلي قلل من التكهنات بأنه قد يصبح رئيس وزراء أوكرانيا، قائلا إن مزاعم الفساد حوله ضايقت كثيرا من الناس. لكنه حذر من أن هناك حاجة إلى رئيس وزراء جديد وحكومة جديدة بسرعة، وإلا فإن دعم بوروشينكو يمكن أن ينهار.
ومن دون اتخاذ إجراءات حاسمة، يمكن أن تنتشر الاضطرابات حتى بين المقاتلين العائدين من الشرق. وحذر مقاتل يرتدي زيا مموها، ملقب بـ “يارمول” في ذكرى إحياء احتجاجات ميدان في الشهر الماضي، وهو يشير بيده إلى مكاتب حكومية: “إذا لم يتغير شيء في وقت قريب، سنبدأ بإطلاق النار عليهم”.
مثل هذه التعليقات تقلق فولوديمير جونسكي، الذي حشد المحتجين من منصة ساحة ميدان قبل عامين. وفي الذكرى السنوية الشهر الماضي، خاطب جمعا نافد الصبر، قائلا: “صحيح أن بلادنا لا تزال في أيدي القلة، بينما عدونا يهاجمنا”. لكنه حذر من ثورة جديدة يمكن أن يستفيد منها الكرملين.
وقال: “كم مرة في التاريخ فقدنا بلدنا؟ لا يمكننا أن ندع ذلك يحدث مرة أخرى. نحن بحاجة إلى مزيد من المعاناة. والأمور تتحسن مع مرور الوقت. هذا هو قدرنا”.