رسالة رئيس أساقفة أبرشيّة بعلبك – دير الأحمر المطران حنا رحمة في الميلاد: تتغيّر الوجوه ووجهُك هو هو، تتبدّل الأدوار وتتجدّدُ المشاريع ومشروعك الخلاصيّ هو هو! فَلَكَ أيُّها الطفل يسوع كلُّ تسبيحٍ وإكرامٍ وامتنان، وأنتَ المحبّةُ والرحمةُ والحنان.
إخوتي الكهنة والرهبان، أخواتي الراهبات، أبناءَ وبنات أبرشيّتنا ومنطقتنا الأعزّاء،
أستهلُّ رسالتي الميلاديّةَ الأولى بهذه الكلمات، مؤكِّدًا لكم محبَّتي، ومُجدِّدًا شُكرِيَ الخالِص لكم على الصلوات التي رافَقْتُم بها مجمعَ أساقفتنا الذي انعقد في آذار الماضي، وأثمر انتخابي راعيًا لأبرشيّةِ المحبّة، هذه الأبرشيّة الغالية على قلبي وقلوبكم. سمِعَ الله يومَها صلواتِكم وتضرُّعاتِكم الصادقةَ ولا يزال يسمعها اليوم أيضًا، لذلك أناشدكم أن تواصلوا الصلاة والدعاء لأجلي لكي تكون خدمتي الأسقفيّة هذه ذبيحةً مرضيًّة لله تتجلّى محبّةً ورحمةً أمامكم.
وإذ أشكرُ لكم كلَّ الجهود والتضحيات التي بذلتُموها في سبيلِ إنجاحِ احتفالات السيامة والتولية، وكذلك الاستقبالات والتهاني التي شُرِّعَت لأجلها الأبواب سواء في دار المطرانيّة أو في رعاياكم المباركة، كما أشكر كلّ المهنِّئين الذين توافدوا من قريبٍ أو بعيد، أؤكِّدُ لكم، يا أبنائي وإخوتي في المسيح، أنّ محبَّتَكم هذه كانت وستبقى لي دومًا خيرَ سندٍ روحيٍّ ودفعٍ معنويّ للقيام برسالتنا على أحسنِ وجه!
أمام سخائكم الروحيّ هذا وجهدِ أياديكم المباركة، لا يَسَعُني إلاّ السجودُ أمامَ طِفلِ المغارة، باسطًا أمامه يدَيَّ الصغيرتين، حاملاً إليه تطلُّعاتكم وتضرُّعاتكم الصادقة، طالبًا منه في عيدِ ميلادِه المجيد أن يُغدق نعمَه الوافرةَ على عيالكم، ويغمرَ بيوتكم بحضورهِ الميلاديّ الدافئ والشافي!
أيُّها الأحِبّاء، هوذا عيدُ الميلاد يطلّ علينا من جديد حاملاً إلينا البشرى السّارّة، تلك البشرى نفسها التي انهمرت علينا بهيبتها ووقارها منذ أكثر من عشرين قرنًا لتُنعِشَ البشرّيّة وتغذّيها، جيلاً بعد جيل، وتوزِّع علينا خيرات السماء، مؤكِّدةً أنّ النبع الإلهيّ لا يعرف الجفاف: إنّه ينبوع الرحمة الإلهيّة. فتعالوا نغرفُ بلا كللٍ من نبع الرحمةِ هذا، متَّحِدين بالصلاة مع رئيس كنيستنا الكاثوليكيّة، قداسة البابا فرنسيس، الذي أعلن لنا هذه السنة “سنة الرحمة الإلهيّة” ومع صاحب الغبطة والنيافة مار بشارة بطرس الراعي الكلّيّ الطوبى الذي يرفع راية كرامة الإنسان في هذا الشرق. نعم، يا إخوتي، نحن بأمسِّ الحاجة إلى الرحمةِ الإلهيّة في هذه الأيّام لنوقِظَ العالم، ونغيِّر وجه الأرض، ونضخّ دمًا جديدًا في قلب المجتمع البشريّ، ونعكس أنوار الأنجلة الجديدة في ساحاته. نعم، يا إخوتي وأخواتي، إنّ البشريّة بأمسِّ الحاجةِ إلى قوّةِ إيماننا وصلابتِه ورحمتِه، فلا نخافنّ من الالتزام بمتطلِّبات هذا الإيمان، فإلهنا الذي نعبده، إلهُ الرحمةِ والحبّ والحنان، هو كريمٌ في نِعَمِهِ، قويٌّ في تدبيرِه، وقريبٌ من مُحبّيه وصانِعي مشيئتِه!
هوذا العيدُ يطلّ إذًا، فأيّة هدايا نحمل إلى الكلمةِ المتجسِّدِ لأجلنا؟ وأيّ هديةٍ ننتظرُها نحنُ منه؟ أيّ تغييرٍ نطلبه ونأمل تحقيقه في ذواتنا وبيوتنا ورعايانا ومجتمعاتنا ووطننا، لنكون على مستوى انتظارات ذاك الذي تجسّد بيننا ولأجلنا؟
لا يسعُني الإجابة على هذه التساؤلات إلاّ بالتركيز على معنى هذا التجسُّد، والدخولِ في سرِّ جوهرهِ ولاهوته والروحانيّة. فيا إيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، لنَذهَبَنَّ إلى العمق، ونُبعِدَنَّ عن قناعاتنا ومفاهيمنا وممارساتنا واحتفالاتنا ما يُفرِّغُ العيدَ من معناه، ويُغرقنا في روح الوثنيّة والالتواء.
عيد الميلاد هو عيد تجسُّدِ الله الذي شاء بحرّيّةٍ مطلقة أن ينقاد بحبِّه للبشر إلى تنازلٍ نوعيٍّ، بل إلى إخلاءِ ذاته (Kénose) حتّى يحمل إنسانيّتَنا التي أُفسِدَ جمالُها بسببِ معصِيةِ الإنسان الأوّل، ويرفعها إلى مستوى الألوهة كما أرادها هو يوم حقَّقَ الخلق. هذا تجسُّدٌ لا تألفه العقول ولا يقبله المنطق ولا تفهمه الفلسفات؛ إنّه تجسُّدٌ إلهيّ يتطلَّبُ تسليمَ العقلِ، وتواضعَ الفكرِ، وانفتاحَ القلبِ، حتّى يتمكنّ الإنسانُ، جبلةُ يديه، من الدخول في هذا السِّرّ الإيمانيّ العظيم، سرّ الحياة والوجود.
في هذا التجسُّد الإلهيّ يُحقِّقُ الله وعدَه لآدم وحوّاء العاصيَيْن الأوّلَيْن، مُرسِلاً ابنه الوحيد مولودًا من امرأة لخلاص البشر. هذه هي مبادرةُ الله، فيها يُقلِّص المسافات ويشُقُّ طريقَ المصالحة بابنه الوحيد، مُشرِّعًا أبواب العيد لكلِّ من ضاقت فيه الحياة! إنّ الميلاد هو باب الفداء؛ إنّه بداية الصليب؛ إنّه افتتاحُ طريق الجلجلة! نعم، أيّها الأحبّاء، في الميلاد موتٌ، بل دعوةٌ إلى الموت: موتٌ عن الذات، موتٌ عن الرذيلة والخطيئة والعصيان، من أجلِ ولادةٍ جديدة.
في الميلاد يدعونا صاحب العيد إلى التشبُّهِ به، هو الوديع والمتواضع القلب، هو الفقير المتجرِّد، هو علامة الحياة، هو النور للقابعين في الظلام، هو الطمأنينة والسلام في عالمنا المنكوب، الذي تحاولُ عبثًا يدُ الإرهاب والشرِّ والتقسيمِ أن تزعزعه. في الميلاد، لا محلَّ للرياء، ولا للبغض والحرب والتعالي والانتقام والانقسام. في الميلاد تسيل سواقي المحبّة والرحمة، وتنهمر النِعم والخيرات على الساعين إلى السلام! فلا نُفَوِّتنَّ قطافَ ثمارِ عيدِ الميلاد!
في أصعب الأيّام وأكثرها جوعًا للحقِّ والحقيقة، وُلِد المسيحُ في بيت لحم – بيت الخبز، ليكون لنا خبزًا وزاد حياة! لقد وُلِد المسيحُ في بيت لحم لأنّها مركز سِبط يهوذا، سِبط الـمُلك؛ فالمسيح أتى ليعيد سيادةَ الله على الإنسان في عالمٍ يكثرُ فيه المتسابقون على السلطةِ لإخضاعِ الإنسانِ والإنسانيّة، وجرِّها إلى اختيارِ الهلاك. لقد وُلِد المسيحُ في بيت لحم مدينة الملك داود، ليكون هو المخلِّص والفادي ومعطي الحياة. لقد وُلِدَ ربُّنا في مزودٍ ليعطينا ذاتَه خبزَ حياة، في عالمٍ جائعٍ إلى الحبِّ والحياة.
فأهلاً وسهلاً بكَ، يا صاحب العيد، يا كاشفَ أسرارِ الآبِ السماويِّ لبَني البشر!
وسِّعوا ساحاتِكم وبيوتَكم وقلوبَكم لاستقباله، فتتوسَّع أبوابُ الملكوتِ وتتشرَّعُ على أرضِنا المليئة خِصبًا وقداسةً! أهلاً بكَ، يا إنجيل الحياة، يا دستورنا وخلاصنا! ميلادُك ميلادُ الخلاص، ميلادُك هو ميلادُنا وميلادُ البهجة والسرور، فألفُ شكرٍ على ميلادِكَ!
في الختام، أرفع لله آيات الشكرِ ذبيحةً عنكم، وأصلّي مع معلِّمةِ الصلاة، شفيعة أبرشيّتنا وأمِّنا ومحاميتنا مريم العذراء، ليوفِّرَ الربُّ لنا في كلِّ يومٍ سبيلاً لتمجيدِه وإكرامِه، فنكون في هذه الأبرشيّة إيقونةً مقدَّسةً تعكس حقيقةَ التجسُّد وجوهرَه في هذا البقاع الشماليّ العزيز. لذلك أستحلفكم، يا إخوتي وأبنائي في المسيح ألاّ تتعبوا ولا تملّوا، بل كونوا على مستوى انتظارات من جعلنا له أنبياءَ وتلاميذَ في قلب هذا العالم. فتعالوا نُكملُ السيرَ معًا واضعينَ مواهبنا ووزناتِنا وطاقاتِنا في خدمةِ كنيستنا، متكاتفين بقوّةِ الروح القدس لما فيه خير أبرشيَّتِنا وإنمائِها وبُنيانِ بقاعنا الشماليّ الغنيّ بأطيافه، عامِلين على ازدهار الحياةِ الروحيّةِ والاجتماعيّةِ فيه، ومُثابرين على الشهادة الصالحة وبناءِ عالمٍ جديدٍ، وإنسانٍ جديدٍ يتمنطقُ بفكرٍ جديدٍ ورؤيةٍ جديدة وانطلاقةٍ جديدة، هاتفين ومهلِّلين بإيمانٍ وغبطةٍ : وُلدَ المسيح، هلِّلويا !