أدى الانخفاض الكبير في أسعار النفط خلال الثمانية عشر شهرا الأخيرة إلى إعادة توزيع الدخل على المستوى الدولي، بين المصدرين والمستوردين.
لاحظنا انعكاسات ذلك على بعض الخاسرين من مصدري النفط.
لكن ماذا عن الرابحين، أي المستوردين؟
بالنسبة للبعض كان انخفاض الأسعار هدية عظيمة. لقد كان انخفاضا هائلا، وأصبحت أسعار النفط الخام أقل من نصف ما كانت عليه في يونيو/ حزيران من العام الماضي.
انخفاض الأسعار رتب آثارا، يراها كثيرون مثل آثار تخفيض الضرائب عن كاهل المستهلكين، وهذا يعني أنه أصبح بمقدورهم إنفاق المزيد من الأموال على السلع والخدمات الأخرى، التي ينتج بعضا منها شركات في ذات الدولة.
كما يخفض ذلك من نفقات المشروعات التي تستخدم المشتقات النفطية، ومن بينها تكاليف نقل السلع وصناعة البتروكيماويات التي تصنع البلاستيك والأسمدة والأقمشة الصناعية، وكل الصناعات التي تستخدم المواد الخام المستخرجة من النفط المكرر.
منطقة اليورو وبريطانيا
كما جاء ذلك الانخفاض في صالح كل من ينفق على السلع والخدمات، التي تنتجها تلك الصناعات مثل المزارعين مثلا.
ومنطقة اليورو مثال على ذلك. ففي خلال العامين السابقين للانخفاض الكبير في الأسعار انكمش اقتصاد دول المنطقة، لكنه شهد نموا خلال العامين الماضي والجاري، حتى وإن كان ذلك النمو ليس كبيرا.
ولم يكن انخفاض أسعار النفط هو العامل الوحيد وراء ذلك النمو، لكنه بالتأكيد قد ساعد عليه.
أما بريطانيا فقد شهد اقتصادها نموا أقوى، وإن كانت صناعة النفط فيها قد تأثرت.
وهناك عوامل أخرى، لكن الاقتصاد البريطاني نما بشكل أسرع خلال عامي 2014 و2015، مقارنة بالأعوام السابقة.
وتقول تقديرات مجموعة “بي دبليو سي” الاستشارية إنه إذا دارت أسعار النفط حول خمسين دولارا للبرميل خلال السنوات الخمس المقبلة، فإن ذلك سيعزز الاقتصاد البريطاني بنحو واحد في المئة. وهي ليست نسبة ضخمة، لكنها ذات قيمة.
آثار غير ملموسة في الصين
هناك الكثير من الدول التي تعد مستوردا خالصا للنفط، وبالتالي فإن الانعكاسات الإيجابية قد تحجبها تطورات أخرى.
في الصين، جاء انخفاض أسعار النفط في نفس التوقيت الذي شهد فيه اقتصادها تباطؤا للعديد من الأسباب، حيث أن مسار النمو السريع السابق لم يكن قابلا للاستمرار، إلى أجل غير مسمى.
في الحقيقة، ربما كان تباطؤ الاقتصاد الصيني أحد عوامل انخفاض أسعار النفط، على الرغم من أنه يعتقد أن فائض العرض هو العامل الرئيسي وراء ذلك.
أما اليابان، فتعتمد بشكل كامل تقريبا على النفط المستورد، ولم يكن انخفاض أسعار النفط كافيا لمنع اقتصادها من الانزلاق إلى الركود، خلال الربع الثالث من العام الجاري.
لكن رغم ذلك يتوقع صندوق النقد الدولي أن يشهد الاقتصاد الياباني نموا إجماليا خلال العام الجاري، وذلك بعد انكماشه خلال عام 2014.
خفض الدعم
هناك فائدة أخرى من انخفاض أسعار النفط، فالعديد من دول العالم تدعم أسعار الوقود. وتقدر وكالة الطاقة الدولية أن الدعم الحكومي لأسعار الوقود الحفري حول العالم خلال عام 2014 بلغ 500 مليار دولار.
ومن بين هذه الأموال ذهب نحو 267 مليار دولار لدعم أنواع الوقود المشتقة من النفط.
ويعني انخفاض أسعار النفط أن الحكومات بمقدورها أن تخفض الدعم، بينما يدفع المستهلكون الأسعار ذاتها، على الرغم من أن هذا سيؤدي في النهاية إلى ارتفاع أسعار الوقود بالنسبة لهؤلاء المستهلكين، حينما تبدأ سوق النفط في التعافي من جديد.
وبالفعل استغلت دول، مثل الهند ومصر وإندونيسيا، الفرصة وقامت بخفض الدعم عن المشتقات النفطية.
هذا هو الجانب الإيجابي. لكن حتى بالنسبة للمستوردين الخالصين للنفط، هناك جانب سلبي.
أثر النفط الصخري الأمريكي
الولايات المتحدة مستورد خالص (يعتمد بدرجة كبيرة على استيراد) للنفط، لكن الانعكاسات الإيجابية لانخفاض الأسعار ليست واضحة تماما، كما لو كان ذلك قبل نحو عشر سنوات من الآن. والسبب هو ظهور النفط الصخري.
وهذا يعني أن الاعتماد الأمريكي على النفط الخارجي قد تراجع بشكل كبير. ففي عام 2005 غطت الولايات المتحدة 35 في المئة من احتياجاتها من النفط الخام ذاتيا، وخلال العام الماضي قفز هذا الرقم إلى 61 في المئة.
ويعني صعود النفط الصخري أن قطاعا أكبر من الاقتصاد الأمريكي سيكون معرضا لتأثيرات انخفاض سعر النفط.
عائدات الضرائب
هناك الكثير من الدول تعد مستوردا خالصا للنفط، لكن لديها صناعات نفطية كبيرة: مثل بريطانيا في بحر الشمال، وإندونيسيا والبرازيل.
في بريطانيا، تراجعت صناعة استخراج النفط. وأصبحت بريطانيا مستوردا خالصا للنفط الخام منذ عام 2005، وكذلك للمنتجات المصنعة منه منذ عام 2013.
حينما تنخفض أسعار النفط تفقد الحكومات قدرا من عائدات الضرائب، لكن يرجح أيضا أن تشهد مكاسب على صعيد الضرائب على الدخل، وإنفاق المستهلكين والأرباح التجارية غير النفطية.
وفي حالة بريطانيا، توقعت شركة بي دبليو سي للاستشارات الاقتصادية أن يكون الأثر الإجمالي لانخفاض أسعار النفط هو مزيد من عائدات الضرائب.
خطر الانكماش؟
وهناك شيء آخر غير عادي في مسلسل انخفاض أسعار النفط، وهو أنه يرتب أثرا سلبيا حتى على الكثير من الدول التي تعد مستوردا خالصا للنفط.
والسبب هو انخفاض معدلات التضخم العمومية، إلى أرقام قياسية في العديد من الدول، وخاصة الدول ذات الاقتصادات المتقدمة.
ففي بريطانيا ومنطقة اليورو والولايات المتحدة واليابان، تستهدف البنوك المركزية تحقيق معدل تضخم بنسبة 2 في المئة، لكن المعدل العام للتضخم أقل من ذلك بكثير.
وطالما كانت أسعار مواد الطاقة فقط هي التي تشهد تراجعا، فقد لا يمثل ذلك مشكلة كبيرة.
لكن مسؤولي البنوك المركزية قلقون مما يسمونه آثار الجولة الثانية، إذا ما بدأت الأسعار واتفاقات الدفع تعكس توقعات بأن تصبح معدلات التضخم منخفضة للغاية، أو حتى تحت الصفر.
فمن الممكن أن يؤدي هذا إلى دوامة مدمرة من انخفاض الأسعار أو الانكماش.
وهنا تكمن خطورة أن المستهلكين من الأفراد والشركات سيؤجلون الإنفاق، للاستفادة من انخفاض أكبر للأسعار، وهذا قد يفاقم من مشكلات الديون.
وعلى الرغم من أن معدلات التضخم أكبر من الصفر، فلا تزال منخفضة للغاية، وهو ما قد يكون له نفس الأثر.
ولا يعتقد على وجه العموم أن هناك خطرا وشيكا، على بريطانيا ومنطقة اليورو أوالولايات المتحدة بأن تواجه هذه المشكلة، لكن البنوك المركزية تسعى بجد لضمان عدم حدوث ذلك.
وفي الغالب بعد ذلك، فإن انخفاض أسعار النفط مفيد بالنسبة لمعظم الدول، لكن الدول المصدرة تمثل استثناء من هذه القاعدة.
وبالنسبة لبقية الدول فمن الممكن أن تكون هناك آثار جانبية أقل جاذبية، تستحق دراسة متعمقة.