بين الأعوام 2000 و2011 تراكمت مبالغ مالية غير مسدّدة للمستشفيات بقيمة تتجاوز 160 مليار ليرة. هذه المبالغ ناتجة من إنفاق وزارة الصحة على استشفاء غير المضمونين، اي الذين لا تشملهم تغطية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي وتعاونية موظفي الدولة والقوى الامنية والعسكرية وصناديق التعاضد وشركات التأمين… وبحسب التقديرات، فإن مجموع المبالغ المنفقة من الخزينة العامة على الاستشفاء يزيد عن 3000 مليار ليرة، أي ما يعادل ملياري دولار.
إلا أنه في تلك الفترة، اي بين عامي 2000 و2011 تراكمت مبالغ مالية للمستشفيات بذمّة وزارة الصحة، وهي أموال ناتجة عن المعاملات التي وقعها الوزراء على عاتقهم من دون وجود اعتمادات مالية تغطّيها، وهي مبالغ تتجاوز قيمة السقوف المالية التي تضعها وزارة الصحة لكل مستشفى. مجموع المبالغ المتراكمة بين عام 2000 و2004 بلغ 120 مليار ليرة، ويضاف إليها مبلغ لا يزيد عن 40 مليار ليرة عن الفترة ما بين 2005 و2011. هذا يعني أن الديون تعادل 4% من مجمل النفقات من الخزينة العامة على الاستشفاء.
تحوّل الدين إلى عقود مصالحة لم تسددها الدولة لأسباب مختلفة أبرزها عدم توافر الاعتمادات والنقص في المستندات العائدة لتكوين الملفات. ثم بدأت الدولة تبحث عن طرق للسداد، وتقرّر بعد جولة مفاوضات طويلة مع المستشفيات أن يجري الدفع عبر سندات خزينة يمكن أن تحسمها المستشفيات لدى المصارف. واستناداً إلى نتائج التفاوض، صدر القانون 225 الذي يجيز للحكومة إصدار سندات خزينة بالليرة اللبنانية أو بالعملات الأجنبية لتسديد الديون المترتبة على الدولة للمستشفيات.
في هذا الإطار صدر أخيراً القرار الرقم 1120/1 الموقّع من وزيري الصحة العامة وائل أبو فاعور، والمال علي حسن خليل. القرار يشير إلى أنه بسبب عدم انعقاد مجلس الوزراء لبت موضوع «أصول وإجراءات تدقيق وتحديد هذه الديون» المحدّد وفق نص المرسوم 1055 الصادر في 27 تشرين الثاني 2014، فقد قرّر أبو فاعور وخليل حصر عمل لجنة تدقيق الديون بموضوع ديون المستشفيات الخاصة. ويقسّم القرار ديون المستشفيات تبعاً لنسب الحسم المفروضة على نوع الفاتورة وطبيعتها وهي ثلاث فئات:
ــ الفئة الأولى هي الفواتير التي تعود إلى أعمال استشفائية مغطاة بقرارات استثنائية صادرة عن وزير الصحة. وتبلغ نسبة الحسم المعتمدة على هذا النوع من الفواتير 40%.
ــ الفواتير التي تعود لأعمال استشفائية خاضعة للبدل المقطوع. تبلغ نسبة الحسم المعتمدة على هذا النوع من الفواتير 10%.
ــ فواتير تعود لأعمال استشفائية لا تخضع للبدل المقطوع. ونسبة الحسم المعتمدة على هذا النوع من الفواتير تبلغ 25%.
في الواقع، إن نسب الحسم هذه معمول فيها من أيام الوزير محمد خليفة. يومها اقترح وزير الصحة أن يكون هناك حسومات على الفواتير التي تقدّمها المستشفيات بعدما تبيّن لهم من بعض عمليات التدقيق أن هناك نسبة كبيرة من الغش والتزوير التي تقوم بها المستشفيات لنفخ الفواتير وتضخيمها، وخصوصاً تلك الفواتير التي لا اعتمادات مالية لها والتي جرت تغطيتها بقرارات استثنائية صدرت عن وزير الصحة. وعندما استشيرت هيئة الاستشارات في وزارة العدل في عقود المصالحة التي تنوي وزارة الصحة عقدها مع المستشفيات لتسديد الديون المتراكمة، أوضحت الهيئة أن المادة 39 من قانون العقود والموجبات تنص على أن عقد المصالحة يتضمن تنازلاً من كلا الفريقين عن جزء من حقوقهما. وقد جرت العادة أن يتنازل المتعهد سواء كان متعهد استشفاء أو اشغال مختلفة، عن الفوائد التي تستحق بسبب التأخير في السداد، لكن مصادر مطلعة تقول إن زيادة نسبة الحسم إلى ما بين 10% و40%، كما ينص عليها القرار، تعود إلى وجود معطيات جدّية لدى الهيئة عن تضخيم فواتير وغشّ وقد تكون مدعّمة بتقارير من الجهات الرسمية ومن خبراء أيضاً.
هكذا تبدو الصورة واضحة. الدولة تبقي النظام الصحي قائماً على أساس الزبائنية السياسية التي تمنع التغطية الصحية الشاملة. النظام يقوم على أن الدولة تقدم تغطية استشفائية للمواطنين مشروطة بقبول الجهة السياسية المسيطرة على وزارة الصحة. ولكن اذا كانت موافقة الجهة السياسية المسيطرة غير مغطاة بالاعتمادات المالية المنصوص عنها في القانون، فيكون عليها أن تسجّل خرقاً إضافياً لتمنح «بركتها» على تغطية المرضى من خلال اللجوء إلى الموافقات الاستثنائية. غير أنه عندذاك تفتح السلطة الباب أمام المستشفيات للتلاعب بالفواتير وتضخيمها. وعندما تُكتشف عمليات الغش والتزوير، تقوم الدولة بحسم نسبة من الفواتير، لكن المثير للاستغراب أن المستشفيات تستعمل التأخر عن السداد والحسم ذريعة للامتناع عن استقبال المرضى وفرض مبالغ إضافية عليهم تعرف بـ«البراني». إنه النظام الأنسب لإبقاء المرضى بلا علاج على أبواب المستشفيات.