قد تكون الصورة أصبحت اكثر وضوحاً لا سيما بعد قرار الفديرالي الاميركي برفع اسعار الفوائد في ظل انتعاش ملحوظ في الاقتصاد الاميركي وانخفاض في معدل البطالة ومع معدل تضخم بات يقارب الهدف المرجوبعد خطاب ماريو دراغي في نيويورك الاسبوع الفائت، تأكد أنّ المنطقة الاوروبية ما زالت تترنخ في الركود والكساد، ما يثبت فشل المركزي الاوروبي في تخفيف الانتعاش والاستقرار ويؤكد نظرية زيادة التيسير الكمي وتدني اسعار الفوائد. لذلك قد يكون الفارق كبيراً بين سياسات المصارف المركزية العالمية ومضاعفاتها كبيرة على الاقتصاد العالمي بشكل عام.
وايّاً كانت اوجه القصور في قرارات البنوك المركزية تبقى الصورة واضحة للعموم، فالولايات المتحدة تسبق اوروبا بسنوات من حيث الانتعاش ولذلك هي في مراحل مختلفة من السياسة النقدية ومن المرجّح ان يزيد هذا الاختلاف في السنوات القليلة القادمة – كذلك قد تتفاوت سياسة الفيديرالي الاميركي هذه مع سياسة بنك اليابان وسياسة بنك الشعب الصيني (People›s Bank of China)- إنّ خطوة الفيديرالي مبررة في ظل معطيات اقتصادية واضحة انما لا يعني انّ تبعاتها كما سبق وقيل ستكون فوائد أعلى في السنة المقبلة، بل سوف تكون هذه الفترة فترة تريّث يراقبون فيها الاقتصاد وتردداته قبل اي خطوة مقبلة، لا سيما انّ خبرة اليابان مع هكذا موضوع جاءت معاكسة للآمال بعد رفع اسعار الفوائد بشكل متواضع في عامي ٢٠٠٠ و ٢٠٠٦ اضطرت اليابان فيها الى التراجع، ما يعني سابقة من المهم الالتفات اليها.
ولا بد من القول انّ هذا المنحى في الاسواق العالمية جديد ولم نر مثيلاً له لسنوات عديدة، خصوصاً انه عادة ما تتحرك السياسات في الاتجاه نفسه وان كان ذلك بدرجات متفاوتة. وتعتبر هذه الحقبة جديدة من السياسات الاقتصادية المتباينة ومسألة ذات اهمية حاسمة لصانعي السياسة والسياسيين والمستثمرين والشركات.
لذلك ولأول مرة منذ وقت طويل، تتحرك اسعار الفوائد بين اوروبا والولايات المتحدة في الاتجاه المعاكس، وقد يكون من الصعب معرفة مدى تأثير هذا التباين على الاسواق المالية. وبحسب Jim Bianco رئيس بيانكو للأبحاث «إنّ الاثار التي ستترتب على اسواق المال والسندات والديون السيادية ضخمة وما زالت غير معروفة. وقد تعمل بشكل صحيح إنما التجربة كبيرة».
وعلى عكس ما يعتقد العديد فإنّ هذا التباين بين السياسات النقدية في البلدان ذات الاقتصادات المتقدمة كبير انما له سوابق، حسب Benoit Coeure عضو المجلس التنفيذي في المركزي الاوروبي، ويجب مراعاة الآثار الجانبية لهكذا سياسات- كذلك وجب القول انّ لهذا التفاوت تداعياته على مختلف الصعد السياسية منها واسواق الاسهم والسندات وسعر صرف الدولار واليورو والمصارف بشكل خاص- امّا سياسياً فقد تكون خطوة الفيديرالي ورفعه لأسعار الفوائد للمرة الاولى منذ العام ٢٠٠٦ محفوفة بالمناورات السياسية، وقد تكون له انعكاساته على الحملة الانتخابية للعام ٢٠١٦ لا سيما انّ هيلري كلينتون تراهن على انتعاش الاقتصاد وارتفاع الاجور للوصول الى البيت الابيض- كذلك في اوروبا فإنّ اي خطوة خاطئة لدراغي تعزز من قوة معارضيه لا سيما ممثلة المركزي الالماني.
كذلك ومن الناحية النظرية فإنّ ارتفاع اسعار الفائدة ترفع الدولار امام اليورو وتجعل من العملة الاميركية اكثر ربحية للمدخرين والمستثمرين، كذلك سوف تساعد الاقتصادات في اوروبا والتي تعتمد على عملة أرخص في بيع منتجاتها الى الخارج، إنما مصير سعر صرف اليورو مقابل الدولار سوف يحدده الاقتصاد الاميركي وقوته خلال العام المقبل اكثر من ارتفاع اسعار الفوائد، وقد يؤدي ذلك التفاوت ايضاً الى عدم التكافؤ والمنافسة غير النزيهة بين المعسكرين على جانبي المحيط الاطلسي. اضف الى ذلك انّ المصارف، والتي ما زالت تشهد هوامش اقتراض ضعيفة، قد تتطلب من الفيديرالي التحرّك بقوة كي تصبح المصارف في وضعية تشعرها بالارتياح وتعيدها الى تحريك عمليات الاقراض لديها.
وقد يكون قرار الفيديرالي رفع الفوائد أقلّ اهمية على المصارف الاوروبية التي لم تغامر في اسواق الاقراض الاميركية، ويبقى همها الكبير آفاق النمو المتعثر في منطقة اليورو.
هذا لا يعني انّ المصارف الاوروبية خرجت من ازمتها منذ العام ٢٠١١ والتي ترتبت عليها عواقب ضخمة، ولكن رفع الفوائد قد يعني مغامرة جديدة لهذه المصارف في الاستثمار في الاسواق الاميركية من اجل جَني ارباح كبيرة، ويساعد في ذلك زيادة عملية التيسير الكمي والتي سمّيت عن حق أو بالأحرى عن غير حق «Super Mario» الى جانب اسعار فوائد سلبية على الودائع من النقد الاجنبي الى جانب المركزي الاوروبي.
واكبر الشواغل للمحللين تشمل ارتفاع الدولار وبوادر الاجهاد في غلة سندات الشركات سواء في الولايات المتحدة او في الخارج لا سيما في قطاع الطاقة- وقد تكون ردات فعل الاسواق متفاوتة حالياً وغير مستقرة، وقد يتطلب الانتظام بعض الوقت ريثما تنجلي الامور، انما يبقى الاقتصاد الاميركي وتفاعله مع رفع اسعار الفوائد اكبر مؤشر للأسواق والدول والمستثمرين.
واذا كانت السياسات النقدية متفاوتة وبنسب باتت كبيرة مقارنة بما كانت عليه في السابق، يبقى القول انّ الانتعاش الحالي التي تشهده اميركا حالياً لم يكن نتيجة سياسات نقدية غير تقليدية فقط انما نتيجة ديناميكية الاقتصاد الاميركي وسياسة الفيديرالي الاشرافية والتنظيمية، والتي ما زال يفتقدها المركزي الاوروبي ويُبقي اوروبا ولسنوات خلف اميركا في مرحلة استعادة نشاطها.