كتب ملاك عقيل في صحيفة “السفير”:
قبل أكثر من عام، وتحديداً في 8 تشرين الثاني 2014، وفي مؤتمر صحافي عقده إثر عودته من زيارة رعوية قام بها الى استراليا، شنّ البطريرك بشاره الراعي هجوماً عنيفاً على المسؤولين السياسيين في مجلس النواب والحكومات المتعاقبة «لافتقارهم إلى الولاء للبنان، والتنكّر لواجب خدمة الخير العام، والتسابق إلى المصالح والمغانم الشخصية والفئوية والمذهبية».
مجلس النواب كان أقرّ لتوّه التمديد الثاني مانحاً نفسه ولاية كاملة، بعد تمديد إقامته في ساحة النجمة لسنتين وسبعة اشهر إضافية. لم ير الراعي في هذا الخيار سوى رغبة واضحة للنواب بحماية مصالحهم خلافاً للدستور، داعياً النواب غير الراضين عن التمديد الى الاستقالة من المجلس. وعلى هذا المنوال ثابر الراعي على تأديب النواب المتلكئين عن واجباتهم الدستورية طوال فترة الشغور الرئاسي.
في المؤتمر نفسه صارح الراعي الحاضرين بأنه «لن يعذّب نفسه» ويطالب النواب مجدداً بانتخاب رئيس «لأنه، على ما يبدو، القرار يأتي من الخارج، حتى قرار التمديد. أنا سأتحدّث مع غير النواب لأن كل القرارات تأتي من الخارج. سنتحدّث مع من يأمرهم».
في تلك المرحلة قابلت الرابية مواقف الراعي بشيء من العقلانية غير المجبولة بردّات الفعل القاسية، خصوصاً أنها المقصودة بدعوة البطريرك لـ «لكل من هو غير راض بالتمديد بالاستقالة»، ولأن خطوط التوتر العالي لم تكن قد ارتفعت بشكل واضح بين بكركي ومقرّ «جنرال المسيحيين».
تراوح موقف ميشال عون يومها بين حدّين: الإيحاء بقبول دعوة البطريرك باستقالة نواب «التيار الوطني الحر» الرافضين للتمديد، مع ربط هذا الخيار بخريطة طريق واضحة ومفصّلة لمؤدّياتها ونتائجها. وإما الذهاب الى جلسة انتخاب رئيس الجمهورية بمرشّحَين اثنين الأكثر تمثيلاً على الساحة المسيحية، مع التأكّد مسبقاً بعدم ركون الفريق الآخر الى وضع كمائن تحرف الجلسة عن مسارها. هي جلسة ميشال عون ضد سمير جعجع برعاية بطريركية.
عملياً لا الرابية استجابت لدعوة الاستقالة ولا بكركي أعارت اهتماماً يُذكر لمطلب أساس كان يرفعه زعيم أكبر كتلة مسيحية: جلسة انتخاب الرئيس يجب أن تتوّج بوصول ممثل المسيحيين الى الرئاسة الاولى، وليس عبر دعوات متتالية لنزول النواب الممدّدين لأنفسهم من أجل انتخاب أي رئيس.
منذ أكثر من أربع سنوات تتفرّج الرابية على «بطريرك يجوب العالم وحين تسمح الظروف يكرّس وقتاً لزيارة لبنان». استوعب العونيون «اغتراب» الكنيسة وتفهّموا دوافعها ومنطلقاتها المسيحية وبصموا عليها، خصوصاً في ظل الأخطار المحيطة بهم في المنطقة.. الى أن حلّ الشغور الرئاسي.
لكن كلّما طال هذا الشغور كانت المسافات تتمدّد بين بكركي والرابية. لم يكن الحُرُم الذي ألقاه الراعي على التمديد ومن يسير به كافياً لحمل الطرفين على ان يكونا في جبهة واحدة.. نظرة الراعي الى الرئاسة والرئيس لم تكن مطابقة لمواصفات ما يريده عون من الرئاسة والرئيس.
طوال مرحلة الشغور لم يلتق الراعي مع ميشال عون على تصوّر مشترك لجلسة انتخاب الرئيس. ظلّ الأول يردّد عبارة انتخاب الرئيس بأسرع وقت ممكن مع تعداد صفات يمكن أن تنطبق على نحو عشرة مرشحين للرئاسة. لم يقف عند غضب الرابية من مجلس نواب ممدّد له ولا يحق له أن ينتخب رئيساً. عون من جهته كان يطرح أكثر من مخرج وحلّ، لكن القاسم المشترك واحد: وصول ممثل المسيحيين الى الرئاسة، أي انتخاب الأصيل لا البديل.
لم تتحمّس بكركي لأي من هذه الخيارات: استطلاعات الرأي (مع أنه سبق لبكركي ان طرحت خيار الاحتكام الى الشعب من خلال إجراء استطلاع شامل في نيسان 2014)، او إقرار قانون انتخابي على أساس النسبية ينتخب لاحقاً رئيس الجمهورية، أو انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب بعد تعديل الدستور، أو تسوية وطنية تمنح المجلس القائم الممدّد له حق انتخاب الرئيس الأقوى مسيحياً…
وبعد إطلاق الرئيس الحريري مبادرته الرئاسية، سعت بكركي للقاء يشمل الأقطاب الموارنة الأربعة لتدارس الاقتراح وأخذ قرار بشأنه. باستثناء فرنجية، لم يبد الآخرون أي حماسة للتجاوب مع الرغبة البطريركية للنقاش في مبادرة غير مقتنعين بها.
أوساط عون تؤكّد في هذا السياق ان المبادرة التي يسوّق لها الراعي تعارض وثيقة بكركي الصادرة في شباط 2014 في نقطتين أساسيتيّن: صفات الرئيس القوي في بيئته، والتلازم بين انتخاب الرئيس والتعديلات المطلوبة وعلى رأسها قانون الانتخاب.
المشهد الأكثر تعبيراً تبدّى في الغياب المسيحي المدوّي في قداس الميلاد. بعكس العام الماضي حين استمع ميشال عون وأمين الجميل مع عدد من نوابهما ووزرائهما من داخل كنيسة القيامة في الصرح البطريركي الى الراعي وهو يتساءل «لماذا هذا الاستهتار بدور الرئيس والتمادي بالاستغناء عنه»، فإن الراعي ألقى عظة الميلاد يوم الجمعة، في غياب كامل للقادة الموارنة وبحضور الرئيس السابق ميشال سليمان.
في رسالة الميلاد عشية العيد كرّر الراعي دعوته لانتخاب رئيس للجمهورية «في أسرع ما يمكن»، داعياً الكتل السياسية والنيابية إلى «مقاربة جدّية للمبادرة الرئاسية»، مشدداً على أنها «تتّصف بالجدية كما هو ظاهر في عامل الثقة والأمل الذي أحدثته على المستوى النقدي والمصرفي، وفي الدفع الجديد للتفاهم بين فريقي 8 و14 آذار».
الأهم من ذلك أنه أعلن، للمرة الأولى، رفضه ربط انتخاب الرئيس بوجوب إقرار «سلّة أو تسوية متكاملة».
في قداس الميلاد أضاف البطريرك عاملاً آخر للمبادرة يمنحها مشروعية التقاء الكتل السياسية حولها «لتدارسها والوصول الى قرار وطني بشأنها» بالتأكيد أنها «مدعومة دولياً».
لم يتأخّر ردّ الرابية كثيراً. في نشرة الأخبار المسائية على قناة «أو تي في» عدّلت قواعد الاشتباك الصامت مع الصرح البطريركي لتصل الى حدّ بق البحصة.
اتّكأت المحطة على حديث البابا فرنسيس عن أمراض بعض أهل الكنيسة لتتّهم الراعي تلميحا بـ«الالزهايمر الروحي»: «يتّكل رأس الكنيسة ويراهن على الدعم الخارجي لمبادرة رئاسية ينكّل فيها الداعم نفسه بمسيحيي سوريا والعراق من خلال حضانته لإرهابيي داعش ووحوشها والمساهمة في تهجير الملايين من أبناء الشرق».
في قداس الأحد، يوم أمس، يوضح الراعي المقصود بعد تلقّفه الرسالة: «عندما نقول إن المبادرة جدّية ومدعومة دولياً، إنما نميّز بين المبادرة بحدّ ذاتها والاسم المطروح».
ودعا «الكتل للتشاور بشأنها في شقّيها ولاتخاذ القرار الوطني المناسب، انطلاقاً من الوقائع المتوفرة»، مشدداً على أن «ليس من المقبول إسقاط المزيد من فرص التوافق من أجل انتخاب رئيس».
مصادر نيابية في «تكتل التغيير والإصلاح» لم تجد في كلام الراعي «التوضيحي» أمس سوى «ترقيعة» لم تحجب الأساس مما قيل في المبادرة الرئاسية من جانب الراعي في تبنّيه الواضح لها ودعوته الصريحة للكتل السياسية الى التوافق بشأنها.
والمصادر نفسها التي تجد البطريرك «كل يوم برأي وكل يوم في بلد» تقرّ بجدول الفوارق الموجود بين الراعي وعون في موضوع الرئاسة، مشيرة الى ان عدم حضور نواب «التكتل» قداس الميلاد «لا ينمّ عن مقاطعة بقدر ما يعكس مناخات التعارض في التوجّهات بين الطرفين بشأن الملف الرئاسي».
لكن جهات مراقبة ترى أن ما يبغيه البطريرك الراعي من المبادرة هو فعلاً الرهان على الدعم الخارجي لها أكثر من اسم سليمان فرنجية، وهي الجهة نفسها التي اجتهدت سابقاً في دوائر القرار للإتيان بالراعي وتنصيبه بطريركاً.