IMLebanon

أطفال الثورة الصينية يدفعون غاليا ثمن الهجرة

China-Child
باتي فالدماير

الانتقال الجماعي لسكان الريف الصيني عمل على تغيير وجه الاقتصاد، لكنه عمل أيضا على ترك ملايين الأطفال في البيوت، بسبب مغادرة آبائهم للعمل في المدن. الآن أخذت الصين تفحص الثمن الاجتماعي لذلك.

يجري ترك الأطفال في قرى قاتمة في جميع أنحاء الصين من قبل آبائهم الذين انضموا لأكبر حركة هجرة تطوعية للعمال في تاريخ البشرية. يُترَك البعض في البيت مع أحد الوالدين، والبعض الآخر يبقى مع جدة غير متعلمة أو جد مرهق. ما يقدر بمليوني مليون طفل يجري تركهم ليدافعوا عن أنفسهم.

يوجد في الصين 61 مليون طفل من الذين يُطلَق عليهم “الأطفال المتروكون”، الذين أصبحوا شبه أيتام بفعل المعجزة الاقتصادية الموجودة في البر الرئيس. تفيد المقابلات التي أجريت مع العاملين الاجتماعيين والمنظمات غير الحكومية والمختصين الاقتصاديين والآباء، بأن المهاجرين يقومون بذلك من أجل الأطفال الذين يتركونهم وراءهم: لدفع تكاليف تعليمهم، ولبناء مسكن لهم، ولمنحهم مستقبلا ليعيشوا بين ناطحات السحاب، وليس بين حظائر الحيوانات. يقول المختصون الاقتصاديون إن هذا هو ثمن التحضر والتحديث في الصين، تماما بالتأكيد مثل المياه المسممة والضباب الدخاني الذي يعد إرثا للتنمية الصناعية فيها.

تقول جيني باوين، رئيسة الجمعية الخيرية الأمريكية “وان سكاي”، التي بدأت أخيرا برامج رائدة في مساعدة أطفال المناطق الريفية على التنشئة من دون والدين: “نحن نراهم كأيتام اقتصاديين، حيث إن القرى في تفكك؛ لأن الكثير من الآباء الصغار في السن يذهبون بعيدا للحصول على عمل. وأجيال من الناس الذين كانوا دائما معا لم يعودوا كذلك”.

في هذه الأيام، القوة الماحقة لهجرة اليد العاملة الصينية آخذة في التباطؤ بسبب تقلص قوة العمل. هذا العام، نشرت صحيفة الفايننشيال تايمز سلسلة من المقالات حول نهاية معجزة الهجرة هذه، وحول كيفية تأثير ذلك في المهاجرين الذين قادوا التحول من المعزل الزراعي إلى المجتمع الرقمي، خلال ثلاثة عقود فقط.

ينتقل البعض بشكل أقرب إلى موطنهم بسبب تباطؤ الاقتصاد، وتحاول بكين إيجاد المزيد من الوظائف في الاقتصاد الداخلي. هذا يعني أن بإمكانهم أن يروا أطفالهم في كثير من الأحيان كل بضعة أسابيع، بدلا من مرة واحدة في السنة أو أقل. ويمكن للتكنولوجيا أن تبقي الآباء على اتصال مع أبنائهم بشكل غير مكلف نسبيا.

مع ذلك، بالنسبة لكل مهاجر ينتقل بشكل أقرب للمنزل، هنالك شخص آخر يغادر القرية للعمل للمرة الأولى، ربما لأن تشييد وبناء طريق سريع جديدة فتح أماكن كان يصعب الوصول إليها في السابق من قبل العالم الخارجي. لذلك، من المرجح أن يواصل عشرات الملايين من الأطفال العيش بشكل رئيس من دون آبائهم لسنوات مقبلة.

وهذا قد يعرض الجيل القادم من النمو الصيني للخطر، بحسب ما يقول مختصو الاقتصاد. قد يكون الأطفال الذين يتعلمون في مدارس ريفية فقيرة، دون وجود آباء متعلمين معهم لمساعدتهم، غير قادرين على دفع وتعزيز النمو الجديد الذي يقوده الابتكار، والذي تهدف إليه بكين.

وقد يكون الضرر على المجتمع الصيني وعلى النظام الأسري وحتى على الحالة النفسية للأطفال المعنيين حتى أشد قسوة، وفقا لمختصين اقتصاديين، وباحثين حكوميين وغيرهم ممن درسوا ظاهرة الأطفال المتروكين.

بكين مدركة للمشكلة منذ سنوات، لكن القضايا البارزة للأطفال المتروكين، مثل الأشقاء الأربعة الذين تناولوا مبيدات الآفات، أو أبناء العم الخمسة الذين لقوا حتفهم في مكب للنفايات – جنبا إلى جنب مع غيرهم من الأطفال الذين قتلوا عندما كانوا وحدهم في المنزل، أو تعرضوا لإساءة جنسية – أدى إلى أن تتصدر القضية مكانا بارزا في جدول الأعمال الوطني للمرة الأولى. كل قضية جديدة لمأساة أطفال متروكين تطلق موجة أخرى من البحث عن الذات، حول الثمن الاجتماعي الذي دفعته الصين خلال السنوات الثلاثين الماضية من الإصلاح الرأسمالي.

وصمة اجتماعية

يانج إكسوييينج هي طفلة تبلغ من العمر 12 عاما، ترتدي قبعة وردية اللون من الساتان. وهي واحدة من الأطفال ذوي الحظ السيئ بما فيه الكفاية عندما كان والداها لا يزالان يعيشان معها في البيت، حيث إنهما غادرا عندما كان عمرها تسع سنوات.

ما أكثر شيء فقدته؟ تقول في مقابلة أجريت معها في مدرستها الابتدائية في قرية دوجيا التي تشتهر بزراعة التفاح، والتي تقع على هضبة اللوس في مقاطعة شانكسي في وسط الصين: “الشعور بالألفة”. تعيش إكسوييينج مع جدها وجدتها، وهي قريبة منهما، لكن الأمر ليس نفسه. حيث تقول: “أفتقد والداي كثيرا”.

إنها توافق على أن وجود والدين مهاجرين لا يخلو من الفوائد، حيث إن والديها غادرا ليتمكنا من “كسب ما يكفي من المال لتدريسي في الجامعة”، كما تقول. وتلك القبعة التي ترتديها جلبتها عندما زارت أمها وأبيها في البلدة التي تبعد ثلاث ساعات حيث يعيشان، ويعودان كل شهرين أو ثلاثة، وفي المرة الأخيرة أحضر لها والدها الموز والبرتقال كهدية، بحسب ما تقول، مضيفة أن لديها أشياء لطيفة أكثر مما لدى بعض أقرانها الذين يعيشون مع والديهم.

على أن ما يجري في الصين، هو أن الأطفال المتروكين يعانون وصمة اجتماعية، حتى إن كانت أوضاعهم المادية أحيانا أفضل من أوضاع الأطفال الذين يعيشون في منازل من دون دخل. على سبيل المثال، سألت معلمة إكسوييينج فيما إذا كانت تعتبر نفسها “مثيرة للشفقة”. إن ذكر هذا السؤال يجعلها تبكي. وترد قائلة، كلا “لأن أصدقائي جميعهم يعاملونني بشكل جيد”.

يقول آن ديك، وهو معلم رياضيات في مدرسة إكسوييينج، إن درجات الأطفال المتروكين تكون أسوأ من درجات الطلاب الآخرين، وأنه من الصعب تدريسهم. “لديهم عادات أكثر سوءا بسبب غياب الوالدين. ولا يقومون بحل واجباتهم، ويتشاجرون مع الآخرين، ومزاجهم عصبي. لا أحد يهتم بهم، ولا يستطيعون التعامل مع الآخرين. إنهم أكثر عنفا”، بحسب ما يقول، “إنهم يفسدون بسبب تدليع أجدادهم لهم”.

ويبدو أن هذا هو الرأي السائد، حتى بين كثير من الأجداد: حيث إنهم غير قادرين على تربية الأطفال الذين ينجحون في المدرسة أو في الحياة. تقوم لي جايي بتربية اثنين من الأطفال الصغار مع زوجها في قرية وانجيوان، في جبل شانج.

تقول لي، وهي تحمل حفيدها البالغ من العمر عاما واحدا، ويرتدي البنطال التقليدي الذي لا يزال شائعا في المناطق الريفية الصينية: “الأطفال الذين يعيشون مع الوالدين الشباب أكثر ذكاء”.

كما تقول: “أنا لست متعلمة. يمكنني إطعامه، لكن لا يمكنني تعليمه. كل ما يمكنني فعله هو السماح له باللعب في أنحاء البيت”. مع ذلك، من الواضح أنه ليس هنالك أي نقص في الحب في ذلك البيت: بينما تتحدث لي، يستريح زوجها وهو يحتضن الطفل الآخر في غرفة مجاورة، ويزرع قبلة على جبينه عندما يستيقظ. يبدو كلا الجدين مترددين في التقليل من شأن أحفادهم.

ينقسم المختصون حول عدد الأطفال المتضررين ممن تربوا من قبل أجدادهم، فيما يتعلق بالتطور التعليمي أو حتى الجسدي – أو حتى إذا كان هنالك أثر سلبي على الإطلاق.

هنالك مقايضات موجودة تتعلق بوجود مهاجر في الأسرة، بحسب ما يقول سكون روزيل، أستاذ الاقتصاد في جامعة ستانفورد ومؤسس مشارك في برنامج العمل التعليمي الريفي، الذي كان يقوم بجمع بيانات عن الأطفال في المناطق الريفية النائية في الصين منذ عقد من الزمن. وقد أجرى واحدة من أكبر الدراسات إلى الآن لحالة أطفال الريف في الصين، سواء الذين كانوا مع آباء أو من دونهم.

والنتائج التي توصلت إليها الدراسة تتعارض مع الرأي السائد. يكتب مؤلفو الدراسة: “الأطفال المتروكون ليسوا الأطفال الأضعف في المجتمع الريفي الصيني”. ويضيفون أن “أداءهم مساو أو حتى أفضل من الأطفال الذين يعيشون مع والديهم، فيما يتعلق بالمؤشرات الصحية والتغذوية والتعليمية التي ندرسها”.

“انتشار فقر الدم، وتناسق الطول بالنسبة للعمر والوزن بالنسبة للعمر …. والدرجات المستحقة في الرياضيات واللغة الصينية واللغة الإنجليزية، ومعدلات التسرب من المدرسة الإعدادية والمدرسة المهنية … هي كلها مشابهة للأطفال الذين يعيشون مع والديهم”.

في الواقع، الأطفال الذين يعيشون مع الوالدين في حالة صحية أسوأ قليلا. وروزيل ليس متأكدا من السبب. “ربما الحصول على المزيد من الموارد يساعد، على الأقل جزئيا، على التعويض عن الآثار السلبية لغياب الرعاية الوالدية”، بحسب ما يشير.

أو ربما أن الذين يختارون الهجرة أكثر ذكاء من الشخص القروي العادي – “وبالتالي تكون الجدة أكثر ذكاء أيضا”.

النقطة التي يثيرها روزيل ليست أن الأمور جيدة بالنسبة للأطفال المتروكين – بل هي أن هذين النوعين من الأطفال الذين يعيشون مع أو من دون آبائهم في المناطق الريفية أكثر عرضة للمشكلات، وأن زيادة الموارد الحكومية الموجهة لمساعدة الأطفال المتروكين وحدهم، كبرامج الأمومة والأبوة البديلة، ربما تكون ليست في محلها.

عندما يتعلق الأمر بالاضطراب العاطفي، كالشعور بالوحدة والقلق والاكتئاب وحتى الميول الانتحارية، تجد معظم الدراسات أن الأطفال المتروكين وحدهم يعانون أكثر من الأطفال الذين يعيشون مع آبائهم. ومع ذلك حتى هنا، تكون الأدلة غير واضحة.

وجدت دراسة أجريت عام 2013 من قبل كينج رين ودونالد تريمان، أن “ترك الآباء لأطفالهم أو الهجرة لواحد أو اثنين من الآباء ليس له تأثير يذكر في الصحة العاطفية”؛ لأن هؤلاء الأطفال ليسوا ضحايا للطلاق أو تخلي الوالدين، بل هم أعضاء في “أسر سليمة اجتماعيا” حيث يبقى الوالدان ملتزمين بهم، حتى إن لم يكونوا يعيشون معهم في المنزل.

التكنولوجيا تسد فجوة المسافات

يأمل كل من وانج جونفينج ويانج إكسينجي، اللذين يعيش أطفالهما في قرية دوجيا، بأن يرى أطفالهما الأمور بهذه الطريقة. حيث إنهم يعملون على بعد نحو 1500 كيلومتر في شنغهاي، ويعودون إلى أطفالهما فقط مرة واحدة في العام.

على أنهما يستخدمون تطبيق ويتشات، خدمة رسائل الجوال الصينية، للتواصل مع أطفالهما على الأقل مرة أسبوعيا ورصد واجباتهم المنزلية عبر الإنترنت.

في الواقع، أطفالهما من الطلاب الجيدين إلى درجة أنهما قررا الهجرة مسافة أبعد من موطنهما، حتى يتمكنا من كسب المزيد ليتسنى لهما إدخالهم الجامعة.

يقول وانج: “بفضل التكنولوجيا، لا أعتقد أن ابتعادي عنهم له تأثير كبير في الأطفال. أستطيع إجراء اتصال وجها لوجه مع أطفالي عبر الوي تشات، وأن أسألهم عن أدائهم في المدرسة، وحياتهم اليومية وما يحدث في العائلة”، لكنه يلاحظ أنه في كل مرة تنظر زوجته إلى صور أطفالها عبر الوي تشات تبدأ بالبكاء.

مع ذلك، مثل معظم المهاجرين، يوافق الزوجان: لا بد من القيام بذلك. لديهما أطفال يريدون تدريسهم في الجامعة، وبيت جديد يريدان دفع ثمنه، ولديهما كبار في السن يريدان دعمهم. وهما مستعدان للتضحية بالحياة العائلية التقليدية لحياة أفضل لأطفالهما. ربما تكون معجزة الهجرة في طريقها للا