يستعد لبنان لإستقبال عام جديد بالسياسات الإقتصادية عينها التي أوصلته الى دين عام بنحو 70 مليار دولار، وبالاعتماد على دعم الإقتصاد من خلال توسيع عمل قطاع المصارف الذي بات بمثابة الحاكم الفعلي. لكن على الرغم من بسط القطاع المصرفي سيطرته إلا ان الكثير من الاتفاقيات الدولية والقوانين تهدد سلطته، وتجعله خاضعاً لسلطة أقوى منه. وهذه العلاقة بين القطاع المصرفي والداخل اللبناني، وبينه وبين الخارج، تجعل الاضاءة على واقع هذا القطاع ضرورية، لفهم موقع المصارف اللبنانية من المصارف العربية والعالمية.
تدير المصارف السياسة/الإقتصادية لبنان بشكل او بآخر. ولجمعية المصارف الكلمة الفصل في كل ما يتعلق بالتشريعات السياسية والإقتصادية، حتى وان كانت على حساب مصلحة المواطن. فسلسلة الرتب والرواتب تعتبر أبرز دليل على سلطة المصارف داخلياً، حيث تصدّت المصارف لفكرة ان تكون الضرائب على ارباح المصارف، باباً من ابواب تمويل السلسلة. ولا يهتم القطاع المصرفي إذا استفاد الشعب من تقديمات وحقوق معينة، طالما ان مصالحه مصانة، وفي حين يشهد الاقتصاد تراجعاً كبيراً للقطاعات الانتاجية، يؤكد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ان “الثقة بالقطاع المصرفي بقيت مترسخة”، ويدعم وجهة نظره بالإشارة الى ان “الودائع نمت بنسبة 5% والبنية الرأسمالية المصرفية تعززت، في العام 2015، كما ان نسبة الملاءة لدى المصارف اللبنانية على أساس بازل 3، تفوق الـ12%”. غير ان نمو الودائع لا يعني سلامة القطاع المصرفي بشكل مطلق، فنمو الودائع يقابله تراجع في الطلب على القروض من قبل المستهلكين، وفق ما يقوله لـ “المدن” الخبير الإقتصادي لويس حبيقة، الذي يؤكد انه لو كانت الاوضاع الاقتصادية والسياسية للبنان بحال أفضل، لكان الطلب على القروض تغيّر. وبالتالي يصبح هناك تناسب بين العرض والطلب.
هذا الجانب من عدم التناسب، والذي تفرضه الظروف السياسية والإقتصادية، يسلط الضوء على جدوى الاعتماد الكلّي على القطاع المصرفي، خاصة وان هذا القطاع لا يشكّل دعامة قوية، ولا يشبه القطاعات المصرفية العربية. وذلك يعود، بحسب حبيقة، الى حجم الإقتصادات العربية مقارنة مع لبنان. فقطاع التجارة في السعودية مثلاً، أكبر بكثير من قطاع التجارة في لبنان، وذلك يعني ان طبيعة الإقتصاد السعودي أقوى وأفضل من الإقتصاد اللبناني، وسيؤثر ذلك بالطبع على القطاع المصرفي.
وتأتي الإتفاقيات الدولية لتزيد الضغوطات على القطاع المصرفي في لبنان، وأهمها قانونا “فاتكا” (قانون الامتثال الضريبي على حسابات الأميركيين الخارجية)، و”غاتكا” (قانون الامتثال الضريبي على الحسابات العالمية). فالعام 2015 إشتُهر مصرفياً بأنه عام القانونين، حيث تشددت الإدارة الاميركية على المصارف اللبنانية والعالمية، لناحية تطبيق قانون “فاتكا” في إطار مراقبة الحسابات المصرفية للمواطنين الأميركيين حول العالم. اما “غاتكا” فهو النموذج الأوروبي للقانون الاميركي، لكنه يأخذ طابعاً أكثر شمولاً وأكثر “دولية” من نظيره. وفي جميع الأحوال، كانت المصارف اللبنانية أمام امتحان الالتزام بالقوانين الدولية، وشكّل الالتزام بالقانون الاميركي مرحلة صعبة على القطاع المصرفي، وصلت الى حد تهديد سمعة السرية المصرفية التي تكاد تكون العامل الوحيد الذي يجذب الودائع الى لبنان.
واقع القطاع المصرفي اللبناني مقارنة مع القطاعات المصرفية العربية، لا يمكن ملاحظته منفرداً، أي بالمقارنة الفردية بين القطاع اللبناني وقطاع اي دولة عربية أخرى، وانما يجب النظر الى أحواله من خلال النتائج الجماعية للقطاع المصرفي العربي. فالقطاع اللبناني يحقق نجاحات على قدر ما تحققه المصارف العربية. وفي هذا الاطار، أشار امين عام اتحاد المصارف العربية وسام فتوح الى ان “تقديرات إتحاد المصارف العربية تشير إلى أن متوسط نسبة نمو موجودات القطاع المصرفي العربي قد بلغت حتى نهاية شهر أيلول من العام الحالي حوالي 7%، لتتخطى الموجودات المجمعة عتبة 3.3 تريليون دولار. وبذلك، سوف تساوي موجودات القطاع المصرفي العربي حوالي 135% من حجم الناتج المحلي الإجمالي”. هذا الامر يؤكد – من وجهة نظر حبيقة – ان “القطاع المصرفي اللبناني يلعب دور المكمّل للقطاع المصرفي العربي، وليس له دور مؤثر فيه. وذلك نابع من حجم الاقتصاد اللبناني”. ويضيف حبيقة ان الطريق الوحيد الذي يجب ان يحافظ عليه القطاع المصرفي اللبناني لضمان موقعه، هو الحفاظ على السرية المصرفية، التي تعد “امرا ضروريا للبنان لجذب الودائع”. ويشير الى ان “السرية المصرفية تغيب في الولايات المتحدة الاميركية، لكن الاقتصاد هناك يحمي نفسه من خلال حجمه، على عكس النموذج اللبناني”. وعموماً، يصنّف حبيقة أداء القطاع المصرفي لهذا العام ضمن خانة الـ “وسط”، ويعطيه “درجة 12/20”.
العام 2016 سيبني معطياته الإقتصادية والمصرفية خصوصاً، على ما قدمه العام 2015. وهذا يؤشر الى البنية الضعيفة التي ستستمر في هذا القطاع، الا اذا عمل المصرفيون على تطوير عمل القطاع بإتجاه الإنتاج وليس الإستهلاك، لأن الإستهلاك ضمن هذه الاوضاع الاقتصادية سيتراجع أكثر، وستبقى الودائع مكدسة، لتتراكم بعدها الخسائر. وعندها لن يبقى لبنان في حسابات المصارف العربية، حتى ولو كان تابعاً او مكملاً لدورها العام.