كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
في منتصف الصيف الفائت، بدأت سوريا تدخل مرحلة التفاهم على تكريس الأمر الواقع: هنا للنظام والشيعة والمحور الإيراني- الروسي، وهنا للمعارضة والسنّة والمحاور السعودية والتركية والقطرية. لكنّ هذه المسيرة تعثّرت قليلاً لتعود بزخم اليوم. ويبدو أنّ الماكينة الإقليمية- الدولية بدأت تطحن العوائق من أمامها!في الجانب السوري المعارض، رفضت قوى إسلامية مقاتِلة أن تسلِّم للنظام بإقامة منطقة نفوذ تمتدّ من الساحل إلى دمشق. وفي تقديرها أنّ هزيمة النظام ممكنة، فلماذا تقبل بمقاسمته الأرض؟
ولذلك، اشتدّت حملة المعارضة على معقل النظام في الساحل في تلك الفترة. فإسقاط الرئيس بشّار الأسد في بيته العلوي يقضي على إمكانات احتفاظه بدمشق والمنطقة الفاصلة بين الساحل والعاصمة، ولاسيما حمص.
في تلك الفترة، قدّم الأتراك دعماً مباشراً لأجنحة المعارضة السنّية المتشدِّدة، فهدّدوا باجتياح شمال سوريا، وقدّموا الإغراءات للأميركيين لتبرير التدخّل تحت عنوان برّاق هو محاربة «داعش». وبالفعل، نجحت المعارضة في رفع مستوى الضغط على معقل الأسد في الساحل، وكادت تحدث فيه خروقات مهمّة.
وإذ ظهرت ثغرات في قدرات قوات الأسد والحرس الثوري الإيراني و»حزب الله» في ضمان الحماية المؤكدة للمنطقة الساحلية، في ظلّ التدخّل التركي المبطّن، كان لا بدّ من نزول الروس، في نهاية أيلول، بثقلهم في المعركة لمنع الإخلال بالتوازنات العسكرية.
حارب الروس أنقرة بسلاحها: علناً رفعوا شعار محاربة «داعش»، وضمناً أرادوا حماية معاقل النظام وتأمين خطوط التماس. وحصلوا على تغطية دولية وعربية، ونسّقوا الخطى جيداً مع إسرائيل، كي يحصل كلّ طرف على المكاسب التي يريدها من دون أيّ تصادم.
وعندما اقتنع كلٌّ من المحورين المتصارعين في سوريا بأنّ هزيمة الطرف الآخر وحذفه عن الخريطة باتا مستحيلين، بدأ ارتسام خطوط التماس على الأرض. لكنّ الواضح أنّ «داعش» تتراجع بقوة بعدما أدّت المطلوب منها، وهو خلْقُ العصبية السنّية، في سوريا والعراق، الضرورية لعملية الفرز داخل حدود سايكس- بيكو.
واليوم، إذ تشهد سوريا مقايضات سنّية- شيعية، تقوم القوات العراقية بإنهاء «داعش» في الرمادي، بسرعة مذهلة توازي السرعة المذهلة التي تمّت فيها سيطرة «داعش» على المنطقة، في ظلّ لغزٍ محيِّر عن عجز الجيش يومذاك في إبداء أيّ مقاومة.
كلّ هذه التطوّرات المتزامنة، في سوريا والعراق، تشرف عليها القوى الدولية، ولاسيما الولايات المتحدة من جهة، وروسيا في المقابل. ولكن، في الجهتين، هناك إسرائيل أولاً وأخيراً. فالمحوران يتضاربان أحياناً في المصالح، لكنهما يتقاطعان على مصالح أخرى، وأبرزها صيانة مصلحة إسرائيل.
هدف الإسرائيليين هو خلق صراعات لا تنتهي داخل البلدان العربية المحيطة بهم، تبقي العرب والمسلمين منشغلين بشؤونهم لسنوات وسنوات، وغارقين بدمائهم. فمشروع الشرق الأوسط الذي تعمل له إسرائيل لا يتحقق إلّا عبر ما سمِّي يوماً «الربيع العربي» الذي توقّف قطاره في المحطة السورية واختنق.
وهكذا، وعلى طريقة الحرب في لبنان، مطلوب من سوريا أن تغرق في حرب تمتدّ لسنوات، ومعها العراق ولبنان واليمن وليبيا ودول أخرى ربما لاحقاً، وخلالها تتنصّل إسرائيل من أيّ التزام تجاه الفلسطينيين وتكرِّس ذلك دولياً، فيما العرب جميعاً «ليسوا في هذا العالم».
الآن، ماذا يجري في سوريا؟
لا يريد الإسرائيليون هزيمة الأسد في سوريا بأيّ شكل من الأشكال- وهم ما أرادوا ذلك يوماً- ولا ضرب حلفائه لأنهم في حاجة لتثبيت سلطة الأسد. والمطلوب خلق «داعش» وأخواتها كي تكتمل عناصر الحرب اللامتناهية. وعلى طريقة الحرب اللبنانية، يجب أن يتمّ تثبيت مناطق نفوذ أمنية وديموغرافية تتيح للجميع إطالة أمد الحرب.
في لبنان، جرى إفراغ مناطق ديموغرافياً، بعد سقوطها عسكرياً. وربما جرت مقايضات ديموغرافية خفيّة أحياناً. وهذا النموذج يجري تطبيقه اليوم في «صفقة» الزبداني السنّية مقابل الفوعة وكفريا الشيعيتين. فما يجري هو جزء من عملية الفرز التي تتّجه إليها سوريا، وهو نموذج سيجري تعميمه في كلِّ سوريا لاحقاً، حيث يجب.
إذاً، إنها عودة إلى ما تمّ الاتفاق عليه في الصيف الفائت، بعد إخضاع المعارضين أو المعترضين أو المتحمّسين زيادة عن اللزوم، أيْ الذين لا ينصاعون للضوابط الدولية التي في ظلّها تجري المعارك في سوريا، والتي لا يمكن لأحد أن يتجاوزها ولو بمقدار شعرة!
فالمتقاتلون السوريون جميعاً استسلموا تماماً للعجز المدروس الذي يُراد منه أن يثبت كلاً في رقعة محدّدة ومحدودة. وستعمّ سوريا هدنات موضعية من الشمال إلى الجنوب، على طريقة هدنة الزبداني.
وفي الترجمة، لقد جرى إخلاء مسلّحين سنّة من الزبداني إلى تركيا… ومنها لاحقاً إلى إدلب. وجرى إخلاء الأهالي الشيعة من كفريا والفوعة إلى لبنان… ومنها لاحقاً إلى قرى محيطة بدمشق. وهذه المقايضة، ولو بحجم رمزي، ستؤسس لمقايضات أكبر في المناطق شبه الفارغة من سكانها أو المُفرَغة عمداً.
وفي الفترة الأخيرة، أحكم النظام سيطرته على مدينة حمص التي باتت أحياء منها فارغة. وهذا يسهِّل عملية الترابط بين الساحل والعاصمة بموافقة القوى الإقليمية والدولية الفاعلة.
وكانت إيران طالبت، في الصيف، بإجراء مقايضة سكانية واضحة، بحيث يأتي شيعة الفوعة وكفريا (قرابة 40 ألفاً) إلى الزبداني التي يغادرها أهلها السنّة إلى ريف إدلب.
استراتيجياً، ماذا تعني الصفقة؟
في الدرجة الأولى، سيكون الأسد أكثر اطمئناناً إلى نفوذه في محيط دمشق، و»حزب الله» أكثر ارتياحاً إلى وضعه في المنطقة الحدودية مع لبنان. وستكون للمعارضة السنّية المعتدلة، بعد إضعاف «داعش»، مناطق نفوذها المتعدِّدة على الأرجح، في الشمال والشرق والجنوب.
وهذه المناطق ستتصارع وتتهادن وفقاً للظروف، على الطريقة التي شهدتها مناطق النفوذ الميليشيوية خلال حرب لبنان.
وأما بعد، فقد يأتي اليوم الذي يتقرَّر فيه مصير سوريا، عندما يُصاب الجميع بالإنهاك الكامل و»ينضُجون بدمائهم»، وفق التعبير الذي استخدمه هنري كيسينجر ذات يوم. وهذا المصير قد لا يكون سوى التفتيت والفرز والتقاسم.
هل مصادفة أن تتوالى، خلال أيام قليلة، سلسلة المفاجآت الميدانية: إغتيال إسرائيل لسمير القنطار، واغتيال روسيا لزهران علوش بما يريح الأسد من الضغوط في الغوطة الشرقية حيث جرى قبل أيام إخلاء مسلّحين مع عائلاتهم منها ومن اليرموك والقدم والحجر الأسود إلى الرقّة، في موازاة صفقة المقايضة الجغرافية- الديموغرافية في الزبداني- إدلب، وتحرير الرمادي من «داعش»…
ثمة مَن يعتقد أنّ «الماكينة» اجتاحت في طريقها كلّ مَن يزعجها ويزعج إسرائيل، أو مَن انتهى الدور المكلف به، لأنّ المرحلة الجديدة لها أبطال آخرون أو هي لا تحتاج إلى أبطال بالمطلق. وهنا أيضاً، يكمن اللغز في اغتيال القنطار وعلوش، واللعبتين المفاجئتين في الزبداني- إدلب والرمادي.
في منطق الأمور، ستكون هناك مفاجآت أخرى في سوريا والعراق، وستشمل المفاجآت لبنان أيضاً، ولِمَ لا، ما دامت الأرض هي نفسها، وسكانها ومقاتلوها هم أنفسهم… وما داموا يؤدّون جميعاً، ضمن أوركسترا واحدة، أنغاماً ستبقى منسجمة ما دامت تريح إسرائيل… بإرادة بعض العازفين وبغير إرادة بعضهم الآخر!