يمضي القصر الجمهوري في عتمته الجديدة ليلة الاحتفالات العامرة برأس السنة. فالرئيس “الافتراضي” سليمان فرنجية، الذي بدا في لحظةٍ ما كأنه يهم بحزم حقائبه للانتقال من ضفاف بحيرة بنشعي الى الكرسي الخاوي في قصر بعبدا، يراجع على الأرجح ملخّصاتٍ غير سعيدة أعدّها فريقه عن مآل مبادرة خصومه (الرئيس سعد الحريري) بترشيحه للرئاسة وانقضاض حلفاؤه (العماد ميشال عون وحزب الله) عليها لإجهاضها.
ثمة مَن يأخذ على الرئيس سعد الحريري عدم ترشيحه لداعية الحوار وأحد رموز الانتليجنسيا السياسية – الفكرية سمير فرنجية، لكن مقتضيات التسوية تجعل من زعيم “المردة” مرشحاً كأحد الأقوياء الأربعة الذين جعلتهم العباءة البطريركية “مشاريع رؤساء”، وهم إضافة الى سليمان فرنجية، زعيم “التيار الوطني الحر” العماد ميشال عون و رئيس حزب “القوات اللبنانية” الدكتور سمير جعجع والرئيس أمين الجميل.
ما الذي دفع الحريري الى المبادرة الجدّية و”غير الرسمية” بترشيح فرنجية ؟ وما “القطبة المخفية” في ممانعة “حزب الله” وصول حليفه الى الرئاسة ؟ وأيّ مصير للاستحقاق الرئاسي في ضوء “خلْط الأوراق” الكبير الذي أحدثه تَفاهُم الضدّيْن، اي الحريري وفرنجية ؟ وأيّ تعقيدات داخلية تحوط الإفراج عن رأس الهرم؟ وماذا عن الوهج الاقليمي – الدولي للحراك الرئاسي في لبنان؟
أوساط واسعة الاطلاع في بيروت شرحت لصحيفة “الراي” الكويتية بعض جوانب الملابسات التي حدت بالحريري الى كسْر حلقة الخصومة مع فرنجية ودعم ترشّحه للرئاسة، فقالت ان زعيم “تيار المستقبل” على اقتناع فعلي بأن عدوّه وعدوّ لبنان هو الفراغ، واستشعر بالخطر المتعاظم من جراء شلّ المؤسسات الواحدة تلو الاخرى، وتمادي الاحتقان الأمني في أكثر من بؤرة وتَزايُد مظاهر اليأس السياسي – الاجتماعي.
هذا التقويم للحال اللبنانية المتهالكة كان محور مناقشات في دوائر القرار في “تيار المستقبل” منذ أشهر، بحسب هذه الاوساط التي كشفت عن انه جرى فحص لائحة “الأربعة الاقوياء”، فكانت الخلاصة ان العماد عون فوّت على نفسه فرصةً في لحظة التحول الذي أخرج نوري المالكي من الحكم في العراق وجاء بحيدر العبادي، لانه جرى ربط مصير الرئاسة في لبنان بمآل التطورات في سورية، والدكتور سمير جعجع لم ينل في “دورة تجريبية” أكثر من 48 صوتاً، اما الرئيس الجميل فسبق ان جرّب حظه في الرئاسة (1982 – 1988).
ولأن الحريري يرى ان لا مناص من “الأخذ والعطاء” في اي تسوية يُفترض ان يُكتب لها النجاح، ذهب الى عقر دار “حزب الله” بترشيح فرنجية وكأنه يريد اصطياد أكثر من هدف بحجر واحد – والكلام للاوساط عينها – فمجيء فرنجية، أحد الأقوياء الاربعة، يعيد التوازن الاسلامي – المسيحي الى السلطة، ويفضي الى توافق وطني عبر “التعايش السلمي” بين “8 و 14 آذار” في الحكم لا البقاء في حال الاحتراب خارجه، اضافة الى انه قد يساهم في نقل علاقة المحوريْن الاقليميين في لبنان من حال ربط النزاع الى وضعية فكّ الاشتباك.
هذه “الفلسفة التسْووية” لا تُسقِط أمرين على جانب من الاهمية:
* داخلي يتمثل في رغبة الحريري بالعودة الى لبنان بمبادرة تنهي الفراغ الرئاسي لخشيته من جرّ اللبنانيين عنوة الى أمر واقع رئاسي عبر استغلال بؤر توتر كما هي الحال في منطقة عرسال او مخيم عين الحلوة، ولقلقه المتزايد من بيئته “السنية” التي بدأ يحملها اليأس العام الى ركوب البحار بحثاً عن المستقبل، كما هي الحال في مناطق الشمال.
* خارجي وتجلى في الإفادة من مناخ مؤتمر “فيينا السوري” الذي شكّل الخطوة الاولى في مسيرة تسوية الالف ميل في سورية، وهو مناخ ينطوي على تسليم طرفيْ الحرب بتعذُّر حسمها لمصلحة محور ما، ويؤشر الى ملامح حل وهي الامور التي ربما جرى البناء عليها في تفاهم “غير مباشر” سعودي – ايراني حظي بغطاء اوروبي – اميركي لملء الفراغ الرئاسي في لبنان عبر خيار فرنجية اولاً.
ورغم الاعتقاد المتزايد في الوسط السياسي اللبناني على اختلاف انتماءاته بأن مصاعب فعلية تعترض مبادرة ترشيح فرنجية بفعل قرارٍ لم يعد مكتوماً من “حزب الله” واعتراض أطراف مسيحية وازنة كالعماد عون والدكتور جعجع، فان الداعمين لانتخاب زعيم “المردة” لم يفقدوا الأمل وهم يعزمون إطلاق حركة في الداخل وفي اتجاه الخارج مع مطلع السنة الجديدة.
وكشفت اوساط واسعة الاطلاع عن ان الحريري الذي كان أرجأ الاعلان الرسمي عن مبادرته بترشيح فرنجية، سيطلّ عبر محطتين في فبراير المقبل بمناسبة الذكرى الـ 11 على اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري للكشف بنفسه عن “الأسباب الموجبة” التي حدت به الى اعتماد خيار فرنجية ولرسْم ما يشبه “خريطة طريق” نحو الاستحقاق الرئاسي.
ولم تستبعد اوساط بارزة في “14 آذار” انتخاب فرنجية في غضون الأشهر المقبلة اذ “ثمة قرار دولي كبير بإنهاء الشغور في رئاسة الجمهورية”، معتبرة ان “اعتراض (حزب الله) هو مجرد عملية ضغط لتحسين شروط التسوية مع الحريري. فـ(حزب الله) لن يفوّت فرصة وجود حليف له في قصر بعبدا”.
غير ان مصادر مواكبة عن قرب لمسار الاستحقاق الرئاسي بدت أكثر ميلاً الى القول ان الحظ لن يكون حليف زعيم “المردة” في الوصول الى الرئاسة الآن بسبب عامليْن اساسييْن هما:
* ان “حزب الله” حسم خياره بالبقاء الى جانب العماد عون، المرشح “حتى النفَس الاخير”، وهو موقف لا ينطوي بالضرورة على اقتناع بإمكان رؤية عون في القصر الجمهوري، بقدر ما يعبّر عن معارضة خيار فرنجية وتَفاهُمه مع الحريري.
* ان الدكتور جعجع بدا جدياً، بحسب مَن التقوه اخيراً، في امكان تبني ترشيح العماد عون في اطار تفاهم لإحباط مجيء فرنجية رئيساً، رغم ما ينتاب هذا الاتجاه من ملابسات تتصل بالتموْضعات السياسية في البلاد.
وربما الأشد وطأة من كل ذلك، في رأي دوائر مراقبة في بيروت، هو ما يخشاه البعض من ان يؤدي استمرار الافق المسدود امام الاستحقاق الرئاسي في لبنان عبر تَعذُّر التوافق على اسم ما، هو جرّ الجميع و”على الحامي” الى خيار رئاسي تمليه الوقائع الأمنية.