حقيقة لا يمكن إنكارها، أن إثيوبيا حققت تقدمًا كبيرًا في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية منذ عام 1991. وتعتبر إثيوبيا حاليًا واحدة من الدول الخمس الأسرع نموًا في العالم. وعلى الرغم من أن إثيوبيا تقع في منطقة يسودها نوع من الصراع وعدم الاستقرار، فإن البلاد ظلت على مدى سنوات طويلة واحدة من الأماكن الأكثر استقرارًا في أفريقيا، وقد ساهم ذلك بشكل كبير في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر إليها.
وبعد عقد من النمو المتسارع والتنمية الاجتماعية الممنهجة، يبدو أن السياسات الاقتصادية التي تطمح بتحويل إثيوبيا من اقتصاد قائم على الزراعة إلى اقتصاد صناعي مُتقدم بدأت تشتبك مع التوجهات السياسية والاجتماعية في البلاد. فالنمو الاقتصادي السريع في إثيوبيا أصبح بحاجة إلى تقليل الاعتماد على الزراعة التقليدية، وهذا ما تنتهجه الحكومة ضد أعضاء أكبر مجموعة عرقية في البلاد، الـ«أورومو»، الذين بدأوا في تنظيم أكبر سلسلة احتجاجات في إثيوبيا منذ أكثر من عشر سنوات.
* مظاهرات الـ«أورومو» ضد التنمية
اندلعت المظاهرات منذ 19 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، من قبل مقاطعة أوروميا التي يبلغ تعداد سكانها نحو 27 مليونًا، والتي امتدت إلى ما لا يقل عن 30 بلدة ودفعت أكثر من 500 شخص إلى الاعتقالات، ضد خطة للتوسع الصناعي والخدمي في أديس أبابا، وفقًا لما أعلنه الكونغرس الاتحادي لأورومو، وهي جماعة معارضة.
وجاءت الشرارة الأولى التي أوقدت المظاهرات من قبل طلاب اعتراضًا على مقترحات الحكومة في ما يتعلق بالاستيلاء على الأراضي الزراعية بعدة بلدات بـ«أوروميا»، وهذه المقترحات أثارت مخاوف من قيام الحكومة الإثيوبية بانتزاع الأراضي التي يعيش عليها شعب الأورومو من أجل تسليمها للمستثمرين الأجانب، في إطار خطة الحكومة التي تسعى لبناء مساكن وحدائق عامة ومناطق تجارة تجزئة وبنية تحتية متكاملة لمجتمع صناعي، على مدى الـ25 عامًا المقبلة.
ووفقًا لصحيفة «الغارديان» البريطانية، كانت بداية احتجاجات الأورومو في أبريل (نيسان) من العام الماضي عندما طرحت الحكومة خطة تمديد حيز مدينة أوروميا التي تسمح لها بالزحف على المقاطعات المحيطة وضم المدن التي تقع على أطرافها، بصورة ينتج عنها عمليات توطين غير رسمية تكون عرضة لمستجدات التنمية التي قد تؤدي إلى إزالتها في المستقبل.
واتبعت الحكومة الإثيوبية خلال العقدين الأخيرين سياسة مصادرة الأراضي الزراعية من صغار الفلاحين وبيعها للمستثمرين الأجانب، بحيث بلغت مساحة الأراضي المصادرة ما بين 60 إلى 80 مليون هكتار، وفقًا لما ذكرته صحيفة «تيجري نيوز» الإثيوبية. وأوضحت الصحيفة أن رئيس الحكومة الإثيوبي السابق مليس زيناوي قام عام 1995 بتعديل بعض مواد الدستور بحيث تصبح الأراضي الزراعية الموجودة في البلاد بمثابة «أملاك عامة للدولة» لا يمكن بيعها بشكل شخصي أو تبديلها.
ويقول ميلكيسا ميديجا، الاقتصادي بمركز الدراسات الاتحادية بجامعة أديس أبابا، إن الاضطرابات تسلط الضوء على الصراع بين نموذج التنمية السلطوي في إثيوبيا ونظامها الفيدرالي، الذي يضمن حقوق أكثر من 80 عرقًا. ويُشير ميديجا إلى أن الاضطرابات الحالية هي أكبر تحدٍ واجه الائتلاف الحاكم منذ وصوله إلى السلطة بعد خلع النظام عسكري منذ 25 عامًا.
وتأتي حركة الاحتجاج من قبل قبيلة أورومو بعد سنوات من التهميش الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فعلى الرغم من النظام اللامركزي في إثيوبيا، تتركز السلطة في الجبهة الشعبية الإثيوبية متعددة الأعراق (الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية)، التي، جنبًا إلى جنب مع الأحزاب المتحالفة، فازت بكل مقعد في المجالس التشريعية الاتحادية والإقليمية في مايو (أيار) الماضي.
* ماهية خطة التنمية
رغم سير الاقتصاد الإثيوبي في اتجاه التنمية الحقيقية، يتساءل بيكيلي جيربا، نائب قائد جماعة أورومو الاتحادية: «ماذا تعني التنمية عندما يتم طرد مئات المزارعين ممن ليست لديهم أي مهارات أو أي وسيلة عيش أخرى من أرضهم؟».
وتسعى خطة النمو الجديدة إلى فتح مجالات رئيسية للاقتصاد مع التخطيط للحد من مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4 في المائة في السنوات الخمس المقبلة، من النسبة الحالية البالغة 40 في المائة، لصالح الصناعات التحويلية. وتقترح خطة الحكومة الراهنة خصخصة المؤسسات العامة لجذب المستثمرين. وفي إطار سعيها لتصبح دولة ذات دخل المتوسط، بحلول عام 2025، تهدف إثيوبيا إلى زيادة إيرادات صادراتها إلى 16 مليار دولار بزيادة من 3 مليارات دولار في الوقت الحالي، في السنوات الخمس المقبلة.
وقال رضوان حسين، وزير الدولة لشؤون الاتصالات: «نحن نتطلع إلى تعزيز التحول إلى الاعتماد على القطاع الخاص المحلي لتمكين إثيوبيا من مواصلة التنمية، وذلك من خلال تعزيز حزم الحوافز وخلق بيئة مواتية لممارسة الأعمال التجارية».
* مكامن القوة في الاقتصاد الإثيوبي
تُعتبر إثيوبيا بلا شك واحدا من أهم الاقتصادات الأفريقية، فخلال السنوات القليلة الماضية استطاع الاقتصاد الإثيوبي أن يُحقق معدل نمو سريعا، الأمر الذي ساهم بصورة كبيرة في تراجع مُعدلات الفقر. وخلال نوفمبر الماضي، أصدر بنك التنمية الأفريقي تقريرا إعلاميا خاصا بالاقتصاد الإثيوبي، واصفًا إثيوبيا بأنها «البلد الأكثر مساواة في أفريقيا».
ويقول التقرير إن إثيوبيا، التي تعتبر موطنًا لأكثر من 80 مجموعة عرقية، هي واحد من أسرع الاقتصادات نموًا في العالم، حيث بلغ متوسط النمو نحو 10 في المائة خلال العقد الماضي، وحتى مع النمو السكاني المرتفع، تضاعف دخل الفرد ثلاث مرات على مدى السنوات الثماني الماضية، من 171 دولارًا في عام 2005 إلى 550 دولارًا في عام 2013. وخلال خطة النمو والتحول 2010 – 2015، كانت الاستثمارات العامة في البلاد تُعادل ثلث الناتج المحلي الإجمالي في عام 2013، مقارنة بـ22 في المائة في البلدان الأفريقية الأخرى ذات الدخل المنخفض.
وقد ركزت خطط التنمية الوطنية في إثيوبيا على تحقيق التنمية على نطاق واسع، والحد من الفقر وتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية. وكان المحرك الرئيسي للنمو على مدى العقد الماضي استثمارات القطاع العام على نطاق واسع. فمنذ عام 2010 إلى عام 2013، وصل إجمالي الإنفاق على القطاعات الموجهة نحو النمو لصالح الفقراء من التعليم والزراعة والأمن الغذائي والمياه والصرف الصحي والصحة والطرق إلى 12.7 مليار دولار. وفي عام 2012 / 2013 وحده بلغت نسبة الإنفاق على هذه القطاعات أكثر من 70 في المائة من الإنفاق الحكومي العام، وفقًا لتقرير بنك التنمية الأفريقي.
وتسارع النمو الاقتصادي في إثيوبيا، ليسجل متوسط 10.9 في المائة بين عامي 2004 و2014، وهو ما رفع البلاد من ثاني أفقر البلدان في العالم في عام 2000 لتصبح دولة متوسطة الدخل بحلول عام 2025، وفقًا لتقرير البنك الدولي عن الاقتصاد الإثيوبي.
ويقول التقرير، الذي صدر في نوفمبر الماضي، إن النمو المستمر نجح في تقليل الفقر بشكل كبير من 44 في المائة في عام 2000 إلى 30 في المائة في عام 2011. ويُشير التقرير الذي جاء بعنوان «الركض العظيم في إثيوبيا: تسريع النمو وكيفية الحفاظ عليه»، إلى الأسباب وراء النمو المثير للإعجاب والذي جاء بدعم من تنمية الخدمات والزراعة على جانب العرض، والاستهلاك الخاص والاستثمار في جانب الطلب.
* الاستثمار الأجنبي الدافع الرئيسي للتنمية
وعلى خلفية النمو السريع والجهود التي تبذلها الحكومة في القطاع الصناعي لجذب الشركات العالمية. يتوقع تقرير لـ«إرنست آند يونغ»، ولديه مكتب في العاصمة أديس أبابا، أن الاستثمار الأجنبي المباشر في إثيوبيا سيسجل متوسط 1.5 مليار دولار سنويًا على مدى السنوات الثلاث المقبلة، ارتفاعًا من 1.2 مليار دولار في العام الماضي. ويتوقع التقرير أن تحتل إثيوبيا مرتبة بين أكبر أربعة مراكز للتصنيع في أفريقيا بحلول عام 2025. وقبل سبع سنوات، لم تستطع البلاد استقطاب استثمارات من الخارج سوى بنحو 108.5 مليون دولار فقط.
ووفقًا لتقديرات البنك الوطني الإثيوبي، بلغت الاستثمارات الأجنبية المباشرة في إثيوبيا نحو 3.6 مليار دولار خلال فترة الأعوام الثلاثة الماضية، وجرى تقديم تراخيص لنحو 2146 مستثمرًا أجنبيًا شاركوا في استثمارات تزيد قيمتها على 187 مليار دولار خلال الفترة نفسها، كما تم تنفيذ 637 مشروعًا استثماريًا، وفقًا لوكالة الأنباء الإثيوبية.
ويقول فيستيم أريغا، رئيس وكالة الاستثمار في البلاد، إن تدفق الاستثمار الأجنبي يمثل أهم منعطف جذري للتنمية منذ ثمانينات القرن الماضي، منذ أن تعرضت البلاد لحادث المجاعة الشديدة التي جعلت هذا البلد الأفريقي الشرقي سيئ السمعة لعدم وجود تنمية. وأشار فيتسيم، في بيانات صحافية، إلى أن الصين تقدم أكبر عدد من الاستثمارات، لكن من حيث القيمة تعتبر تركيا والهند هما أكبر المستثمرين. وقال إن البلاد تشهد أيضًا استثمارا واسع النطاق من كل من أوروبا والولايات المتحدة.
وخلال العام الحالي، قام كثير من الشركات الكبرى بتدشين مصانعها في إثيوبيا، وعلى سبيل المثال أقامت الشركة الصينية «هواجيان» مصنعًا للأحذية بتكلفة تقدر بـ400 مليون دولار في ضواحي جنوب غربي أديس أبابا، وتم تدشين الشركة التايوانية للأحذية في منطقة بولي لمي الصناعية بضواحي أديس أبابا، بالإضافة إلى إقامة مصنع إسمنت «دانغوتي» لرجل الأعمال النيجيري عليكو دانغوتي.
* نقاط الضعف في اقتصاد إثيوبيا
يظل نقص النقد الأجنبي مشكلة متكررة تواجه الاقتصاد الإثيوبي، فأبدا لم يكن هناك وقت، باستثناء غير مسبوق نسبيًا للعام المالي 2010 / 2011، لم يُعانِ منه الاقتصاد من نقص في الاحتياطات النقدية. وليس هناك أفضل من سفيان أحمد، وزير المالية والتنمية الاقتصادية السابق ومستشار رئيس الوزراء حاليًا، الذي قال جملته الشهيرة بأن «هذا النقص في العملات الأجنبية لن يتم حله طوال حياته».
وتعتبر المبالغة في تقيم عملية إثيوبيا المحلية واحدا من أصعب التحديات التي تواجه الاقتصاد، وطبقًا لحسابات البنك الدولي وصندوق النقط الدولي، تُعتبر العملة الإثيوبية مُقدرة بأكثر من قيمتها بنحو 15 في المائة في المتوسط، بينما تصل بعض التقديرات الأخرى إلى 25 في المائة. وطبقًا لدراسات من قبل الصندوق والبنك، يتبين أن المغالاة في تقدير العملة يضر بالصادرات حيث تكون الواردات أرخص نتيجة المغالاة، مما يُفاقم من العجز في الميزان التجاري.
وبالفعل تُعاني إثيوبيا من اختلال هيكل الصادرات والواردات، بسبب نقص النقد الأجنبي، في وقت تستورد فيه ما قيمته 14 مليار دولار وتستورد ما قيمته 3 مليارات فقط، مما يولد عجزًا في الميزان التجاري بنحو 11 مليار دولار.
وبحسب دراسة محاكاة أجراها البنك الدولي في عام 2014، تبين أن تخفيض قيمة العملة المحلية الإثيوبية بخمس نقاط مئوية من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع في الناتج المحلي الإجمالي (GDP) بنحو 0.5 في المائة. وهذا يعني أن ارتفاع العملية الإثيوبية بنحو 15 في المائة، يحمل في طياته زيادة في الناتج المحلي الإجمالي الإثيوبي بنحو 1.5 في المائة. لكن طبقًا للدراسة فإن تخفيض قيمة العملة المحلية سوف يكون له تكلفة في شكل زيادة في تكاليف الاستيراد. ومع ذلك تظل النتيجة النهائية إيجابية من خلال الحصول على استحقاقات انخفاض قيمة الصادرات وارتفاع النمو.
* سد النهضة والخلاف الإقليمي
لم يعد مشروع سد النهضة مشروعًا محل دراسة، بل أصبح مشروعا قيد التنفيذ الفعلي من جانب الحكومة الإثيوبية، والذي تعتبره مشروعًا قوميًا لها، وتعول عليه الحكومة في توفير الطاقة الكهربائية اللازمة لتنفيذ خطة التحول الإنمائية من دولة زراعية إلى دولة صناعية متقدمة، فضلاً عن مساهمة المشروع في زيادة معدلات التوظيف والاستثمار الأمثل للموارد المائية.
وسد النهضة أو سد الألفية الكبير – كما أطلق عليه الإثيوبيون – هو سد قيد البناء يقع على النيل الأزرق بولاية بنيشنقول – قماز بالقرب من الحدود الإثيوبية – السودانية. وعند اكتمال إنشائه، المرتقب في عام 2017، سوف يصبح أكبر سد كهرومائي في القارة الأفريقية، والعاشر عالميًا في قائمة أكبر السدود إنتاجا للكهرباء. وتقدر تكلفة إنجاز السد بنحو 4.7 مليار دولار أميركي، وهو واحد من ثلاثة سدود تُشيد لغرض توليد الطاقة الكهرومائية في إثيوبيا.
وقبيل ساعات من انعقاد الجلسة الثانية للقمة السداسية بين وزراء خارجية ومياه كل من مصر والسودان وإثيوبيا، التي جرت مطلع الأسبوع، بدأت الحكومة الإثيوبية تحويل مجرى النيل للمرة الثانية، بحيث تمر المياه من خلال سد النهضة للمرة الأولى منذ البدء في تشييده. وكانت إثيوبيا قد قامت بتحويل مجرى نهر النيل في مايو 2013 للبدء في إنشاء جسم «سد النهضة»، وأعادت المجرى إلى مساره الطبيعي السبت، بعد الانتهاء من إنشاء أول أربعة مداخل للمياه، وتركيب مولدين للكهرباء في جسم السد.
وكانت مصر والسودان وإثيوبيا قد وقعوا في مارس (آذار) الماضي وثيقة إعلان مبادئ سد النهضة في الخرطوم، وتعني ضمنيًا الموافقة على استكمال إجراءات بناء السد مع إقامة دراسات فنية لحماية الحصص المائية. وتدور الخلافات، بحسب بيانات الحكومة المصرية، حول استمرار أديس أبابا في بناء السد، بوتيرة أسرع من الدراسات الفنية المتعلقة به، في ظل خلافات المكاتب الاستشارية المعنية بالدراسات.
يذكر أنه في 22 سبتمبر (أيلول) 2014، أوصت لجان خبراء محلية في كل من مصر والسودان وإثيوبيا، بإجراء دراستين إضافيتين حول سد النهضة، الأولى حول مدى تأثر الحصة المائية المتدفقة لمصر والسودان بإنشاء السد، والثانية تتناول التأثيرات البيئية والاقتصادية والاجتماعية المتوقعة على مصر والسودان جراء إنشاء السد.
وتُشكل الآثار المحتملة للسد مصدر خلاف إقليمي شديد، حيث طالبت مصر، التي تعتمد بشكل كبير على مياه النيل، إثيوبيا بوقف بناء السد وذلك من خلال المفاوضات، المستمرة حتى الآن، مع القادة السياسيين، بينما يؤكد الجانب الإثيوبي أن سد النهضة سيمثل نفعًا لها، خصوصا في مجال توليد الطاقة، وأنه لن يمثل ضررًا على أي من السودان أو مصر.