لا شك ان ما توقعه حاكم مصرف لبنان رياض سلامه حول تراجع معدل النمو الاقتصادي في لبنان في العام 2015 الى صفر في المئة، يلخص النشاط الاقتصادي في البلد خلال عام وصفته الهيئات الاقتصادية بالأصعب على الاطلاق في ظل استمرار الشغور الرئاسي وتعطيل المؤسسات الدستورية.
التراجعات لم تكن محصورة في قطاع محدد، بل استهدفت غالبية القطاعات الاقتصادية، من تجارة وصناعة وسياحة وبناء وزراعة وخدمات على اختلافها. وهذا بدا بوضوح من خلال المؤشرات الصادرة التي تظهر نتائج أعمال هذه القطاعات، وكذلك من نداءات الاستغاثة التي أطلقتها القطاعات المعنية والتي كررت تحذيرها من مشاكلها وأوضاعها الصعبة التي تترافق مع إقفال مؤسسات وصرف عمال بالجملة.
الأسواق التجارية والسياحة كانتا الأكثر تضرراً، فبعدما شهدت بعض الانفراجات في النصف الاول من العام، كان النصف الثاني سيئاً للغاية، نتيجة «انفجار« أزمة النفايات وما تبعها من حراك في الشارع طال صورة لبنان في الداخل والخارج، وهذا ما حرم القطاع التجاري بشكل خاص والاقتصاد الوطني بشكل عام من الاستفادة من مواسم أعياد الفطر والاضحى والميلاد ورأس السنة.
وقبل أزمة النفايات، حاولت الهيئات الاقتصادية استدراك الامور، فعقدت لقاء جامعاً غير مسبوق في 25 حزيران في مجمع «البيال« تحت اسم «المجتمع المنتج»، ضم، الى الهيئات، الاتحاد العمالي العام، نقابات المهن الحرة، وهيئات المجتمع المدني، وأطلقوا خلاله «نداء 25 حزيران، لقرار ضد الانتحار».
الهيئات المجتمعة في «البيال«، اعتبرت ان الاقتصاد الوطني لم يعد بمقدوره الصمود تحت وطأة الضغوط المتزايدة في ظل الفراغ في سدة الرئاسة وتعطيل المجلس النيابي ومجلس الوزراء، خصوصا مع التراجع المخيف للمؤشرات الاقتصادية والاجتماعية على حد سواء ما ينذر بانهيار اقتصادي وانفجار اجتماعي.
وأكد «نداء 25 حزيران» ثوابت ومطالب اساسية لقيام الدولة ووقف النزف والانهيار، ابرزها: ان الدولة لا تقوم ولا يستمر الوطن إلا بالدستور والمؤسسات وأولها رئاسة الجمهورية رمز الوحدة والسيادة والكرامة، الانتقال من الصراع حول الدولة والسلطة إلى التنافس في إطار الوطن والدولة وإلى تثبيت العيش المشترك وإلى تدعيم المصالحة بالمصلحة الاقتصادية والحياتية.
وأكد النداء ان «القوى مجتمعة ترفض الرضوخ للأمر الواقع والاستسلام للتلاشي والموت البطيء، ولأنها المؤتمنة على لقمة العيش وعلى مفاصل الاقتصاد والنمو فهي تعاهد الجميع على مقاومة سلوك النحر والانتحار والانتظار وتدعو اللبنانيين إلى مؤازرتها في الضغط لإعادة إحياء المؤسسات وفي مقدمها رئاسة الجمهورية وبالتالي دورة الحياة الطبيعية«.
هذا الانذار الذي وجّهه المجتمع المنتج لم يلق صدى لدى بعض أهل السياسة الذين أمعنوا تعطيلاً بمؤسسات بالبلد لا سيما الدستورية منها، لا بل واجهوا النداء باستهجان واستخفاف وعملوا على محاربة الاطراف المشاركة فيه.
لذلك أخذت الأوضاع منحى انحدارياً انفجرت مع أزمة النفايات وما تلاها من حراك في الشارع، الذي أدى وبسبب أعمال الشغب والتكسير والحرق الذي رافقته الى زيادة الطين بلة.
مع هذا التطور الدراماتيكي، زاد الخوف على اقتصاد البلد بشكل كبير، خصوصاً مع نقل وسائل الإعلام الصورة السلبية عن لبنان الى العالم، والذي حرمه الكثير من السياح وحتى المغتربين واللبنانيين العاملين في الخارج.
أما أبرز النتائج المسجلة فكانت تراجع الحركة التجارية والسياحية بشكل غير مسبوق. وسجل أيضاً إقفال عدد كبير من المؤسسات التجارية خصوصاً في الوسط التجاري لبيروت التي تعدت المئة مؤسسة منذ بداية الحراك وحتى نهاية ايلول، فيما أعلن عن إقفال أول فندق في العاصمة وهو المركزية مونرو سويت.
إزاء هذه التطورات الحاصلة وضررها الشديد على الاقتصاد الوطني لا سيما على قلب بيروت، تحركت الهيئات مجدداً فعقدت مؤتمراً صحافياً في مقر غرفة بيروت وجبل لبنان لإطلاق صرخة تحت عنوان «من أجل انقاذ قلب بيروت»، بدعوة من غرفة بيروت وجبل لبنان وجمعية تجار بيروت.
وحذّر رئيس اتحاد الغرف اللبنانية رئيس غرفة بيروت جبل لبنان محمد شقير خلال هذه الصرخة من «ان مئات المؤسسات التجارية وغير التجارية مقفلة، مئات أخرى تصارع من أجل البقاء، وآلاف من الموظفين سُرّحوا من أعمالهم، وذلك بفعل انعدام الاعمال وابتعاد اللبنانيين مقيمين أو مغتربين، وكذلك السياح إن وجدوا عن هذه المنطقة«.
أما رئيس مجلس ادارة سوليدير ناصر الشماع، فأعلن ان استمرار شركة «سوليدير« والتزامها دعم كل المؤسسات التجارية والسياحية في وسط بيروت، وبتوفير الحوافز التي تتيح لها إبقاء أبوابها مفتوحة، وللاستمرار في توفير العمل ولقمة العيش لآلاف العائلات والأفراد.
وفي مثال حي على حجم الاقفالات خصوصاً بالنسبة للمحال التجارية الراقية التي تبيع للسياح، فقد كان عددها في نهاية حزيران 2014 نحو 1116، وفي نهاية حزيران 2015 أصبح عددها 986 محلاً، ما يعني اقفال 130 محلاً تجارياً، توزعت الاقفالات كالآتي: 79 محلاً في الوسط التجاري، 15 محلاً في الحمرا، 12 محلاً في الاشرفية، 10 محلات في فردان، و13 في مناطق أخرى، وهذا يعني ان خلال سنة واحدة اقفل 12 في المئة من المحال الراقية في وسط بيروت.
ومن المشكلات التي كان لها تداعيات كبيرة على الاقتصاد الوطني، اقفال معبر نصيب الحدودي بين سوريا والاردن مطلع نيسان الماضي الذي جعل لبنان بمثابة جزيرة معزولة عن محيطها، بعد توقف تصدير المنتجات اللبنانية براً عبر سوريا الى الدول العربية خصوصاً الى الخليج، حيث وضع هذا الامر قطاعي الصناعة والزراعة أمام تهديد كبير تمثل برحمانهما من أهم أسواق تقليدية بالنسبة لهما وهي أسواق دول الخليج العربي. لكن القطاع الخاص لم ينتظر الحكومة التي كانت مشلولة وما زالت بسبب التجاذبات السياسية، فسارع الى اللجوء الى خيارات بديلة، منها الشحن البحري الذي تم من خلاله شحن معظم الانتاج اللبناني الى دول الخليج وتركيا وعبرها الى العراق، فيما انتظرت البضائع التي تتطلب شاحنات مبردة أشهراً طويلة لاتخاذ الحكومة قراراً بدعم تصدير المنتجات اللبنانية الزراعية والصناعية بحراً والبدء بتنفيذه.
في المحصلة العام 2015 هو الاسوأ على الإطلاق على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. فكل المؤشرات الاقتصادية تظهر بشكل واضح هذا الأمر، فيما تجاوزت معدلات البطالة الـ25 في المئة ولدى الشباب الـ35 في المئة، أما الفقر وبحسب دراسة أجراها البنك الدول والإحصاء المركزي أعلن عنها أخيراً، بلغ عدد الفقراء في لبنان بين العامي 2011 و2012 أكثر من مليون شخص.
انطوى العام 2015، وأنظار الهيئات الاقتصادية تتطلع بتفاؤل مشوب بالحذر الى العام 2016، معلقين آمالاً كبيرة على نجاح المبادرة الرئاسية وانتخاب رئيس للجمهورية، الذي سيأخذ البلد الى مرحلة جديدة، تعيد الثقة به في الداخل والخارج وتعيده الى طريق الاستقرار والازدهار خصوصاً مع عودة الرئيس سعد الحريري رئيساً للحكومة العتيدة، كما يؤكد رئيس اتحاد الغرف اللبنانية محمد شقير.