أقفلت محفظة «القروض المشكوك في تحصيلها»، في نهاية عام 2015، على أكثر من 4.5 مليارات دولار، أو ما يوازي 7.6% من مجمل القروض الممنوحة للقطاع الخاص، التي تزيد على 59 مليار دولار. من أصل هذا المبلغ هناك ما لا يقلّ عن 450 مليون دولار ديون صنّفت مشكوكا في تحصيلها في عام 2015 وحده، وهي تضاف إلى فئة المبالغ التي أدرجت في التصنيف نفسه على مدى السنوات الخمس الماضية بسبب تداعيات الأزمة السورية على لبنان.
تقديرات بعض المتابعين تشير إلى أن الأزمة السورية وتداعياتها على السوق المحلية، قد تكون مسؤولة عن إدراج أكثر من مليار دولار ضمن تصنيف «المشكوك في تحصيلها»، وأن ارتفاع وتيرة هذا النوع من الديون أقلق مصرف لبنان ودفعه إلى إصدار التعميم 135 بعنوان «إعادة هيكلة الديون».
لم يصدر هذا التعميم بسهولة، بل تطلب الأمر بضعة أشهر من النقاش في حاكمية مصرف لبنان. كان النقاش يتركّز على كيفية السماح للمصارف بإعادة هيكلة ديون زبائنها المتعثّرين من دون أن تستحوذ كلمة «متعثرين» على هذه العملية. المقلق في هذه الكلمة أنها قد تطلق إشارات سلبية في السوق في ظل أوضاع متدهورة، وأنها قد تسهم في تضخيم المشكلة لا في معالجتها. غير أن الحاجة إلى إيجاد صيغة «تسوية» بين الزبائن المتعثّرين والمصارف، دفعت النقاش في اتجاه آخر، أي في اتجاه القطاعات المتعثّرة. فقد تبيّن أن الأكثر تضرّراً هم تجار العقارات ومنشئوها، وأصحاب المؤسسات السياحية، وبعض مجالات العمل التي تدور في هذا الفلك. فبالنسبة لتجار المواد الغذائية، لم يكن حالهم سيئاً، وكذلك الأمر بالنسبة لمصانع الغذاء، وللصناعات التكميلية مثل الورق والكرتون والبلاستيك والنايلون وسواها. المشكلة كانت تتركّز في بعض القطاعات وخصوصاً تلك التي تعتمد على زبائن من نوع معيّن أو من فئات دخل مرتفعة جداً أو على السياح الأجانب.
عند هذا الحدّ بدأ التزاحم بين الكتل الوازنة على آليات التعميم وشروط الاستفادة ومزاياها، أي بين تجار العقارات والمصارف. تجار العقارات ومنشئوها كانوا يشيرون إلى وجود آلاف العقارات المبنية المرهونة للمصارف مقابل ديون تصنّف اليوم متعثّرة، وبالتالي لا يجوز السماح للمصارف بامتلاك العقارات ثم عرضها للبيع حتى لا تزيد وتيرة عرض الشقق للبيع ما قد يؤدي إلى انهيار الاسعار، لأن خسائر بهذا الحجم قد تمثل مانعاً لسداد الديون.
وفي المقابل، كانت لدى المصارف مشكلة أساسية تتعلق بتكوين مؤونات مالية مقابل الديون المشكوك في تحصيلها أو المتعثّرة. ما يقلق المصارف هو أن هذه المؤونات ستقتطع من أرباحها، وبالتالي فإن مستويات الربحية ستتأثّر اذا لم يستطع الزبون إيفاء قرضه وأقساطه لأنها ستضطر الى أن تصنّفه ضمن الديون المتعثّرة أو المشكوك في تحصيلها ثم اتخاذ مؤونات مالية مقابل قيمة القرض. أي انه من الأفضل أن يتملك المصرف الضمانة العقارية، وأن يعرضها للبيع لاستيفاء ثمنها وتجنيب ميزانيته التذبذب في مستويات الربحية.
في ظل هذا النقاش جاء التعميم ليحدّد مجموعة من الشروط الأساسية للاستفادة من آلياته؛ فهو يسمح بإعادة هيكلة الديون لمدّة سبع سنوات، ومنح الزبون قرضا جديدا، ومنح المصارف صلاحية تسديد أو خفض الديون بقيمة العقارات والمساهمات وحصص الشراكة المتملكة من الزبون، ومنحها أيضاً حقّ حسم 50% من السندات لأجل لدى مصرف لبنان، والطلب إلى المؤسسة (الزبون)، إجراء تعديلات إدارية أو مالية أو غيرها.
وفي الواقع لم تكن لدى المصارف أي مشكلة في هذا التعميم سوى في هوية مدير عملية إعادة الهيكلة، إذ إن بعض الزبائن لديها حسابات في أكثر من مصرف، بعضها قد يكون متعثّراً وبعضها الآخر قد لا يكون متعثّراً، لذا فإن التعميم نصّ على أنه في حال تعدد المصارف والمؤسسات المالية الدائنة يتولى صاحب أكبر نسبة من الدين عملية إعادة الهيكلة (ويسمى فيما بعد «المدير») بعد توافر موافقة ثلثي عـدد المصارف والمؤسسات المالية الدائنة التي تملك 60%، على الاقل، من مجموع المديونية المصرفية للعميل المدين.
عملية إعادة الهيكلة، أو منح الزبون قرضا جديدا، أو تملك عقارات ومساهماته وعرضها للبيع، ستتيح للمصرف تحرير المؤونات بعد أن يرفع تصنيف الزبون من دين رديء أو مشكوك في تحصيله إلى دين للمتابعة أو دين عادي، أي انها توقف أي نزف للأرباح. والتصنيفات المعتمدة لدى المصارف ومصرف لبنان تشير إلى أن الدين يكون عادياً، لكنه ينخفض إلى دين للمتابعة ثم إلى دين دون العادي، ثم يخفض إلى دين مشكوك في تحصيله ثم دين رديء. تصنيف «دون العادي» هو الحدّ الفاصل بين الديون التي تحتاج إلى متابعة إدارية وبعض المستندات، والدخول في مرحلة التعثّر والتوقف عن السداد.
ويشير الخبراء إلى أن التصنيف ودرجاته تعدّ أساسية، لأنها تؤثّر على مختلف أوجه ميزانية المصارف، وهي قد تكون ذريعة في اتجاه خفض تصنيفها الائتماني، وبالتالي كان لا بد من معالجة هذه المشكلة ومنح المصارف مخرجاً في اتجاه الحفاظ على مؤشرات إيجابية لجهة الربحية و«تجميل» قدرتها على التفاعل مع الصعوبات والأوضاع السيئة في السوق.
اللافت أنه منذ صدور التعميم في 26 تشرين الأول 2015، حتى نهاية 2015، لم يكن مصرف لبنان قد تلقى أي طلب من أي مصرف يريد الاستفادة من آليات التعميم. وبحسب المصادر فإن السبب يعود إلى صعوبة تكوين الملف والاتفاق بين المصرف أو المصارف والزبائن، إذ إن الأمر قد يتطلب أكثر من شهرين، لكن بعض تجار العقارات أشاروا إلى أن المشكلة في استحالة الاستفادة من هذا التعميم الذي يجعل المصارف تأكل الأرباح التي سيحققها التجار من المبيعات الراكدة أصلاً، والتي دفعت الاسعار إلى التراجع في عام 2015 نحو 25%. ويلفت بعضهم إلى أن التعميم يعالج ميزانيات المصارف ولا يعالج المشكلة التي تحدّث عنها تقرير «موديز» في منتصف عام 2015، الذي يحذر من ضعف الزبائن على السداد، والضغوط الإضافية على ربحية المصارف بسبب ضعف قدرتها على توليد إيرادات من العمولات، أي من ملفات الزبائن، وضعف توليد الأرباح من فوائد التسليفات للقطاع الخاص أيضاً. وقد سمع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة اعتراضات من بعض تجار العقارات، وخصوصاً في ظل الفوائد التي تتراكم جراء إعادة الهيكلة، والتي تصل إلى 9% على الدين الإجمالي، وبالتالي فإن إعادة الهيكلة وفق التعميم ستؤدي إلى تأجيل المشكلة فقط ولا تمنع انفجارها لاحقاً، إلا أنه ردّ عليها بالإشارة إلى أن الأمر يعود إلى المصرف وزبائنه ولا يسعه التدخل في هذا الأمر.