تهدف الصين إلى تغيير مزيج الطاقة لديها مع جيل جديد من المحطات النووية، وهي عازمة على تصدير خبراتها. كما يشير مشروع بريطاني إلى وجود الطموح لديها، لكن التدقيق يتزايد بخصوص المخاوف الأمنية والتكاليف.
على بُعد بضع ساعات بالسيارة من هونج كونج، في خليج بالقرب من مصب نهر اللؤلؤ، يجري تشكيل الملامح العامة لما سيصبح أكبر محطة للطاقة النووية في العالم. في داخل اثنين من المباني الأسمنتية الضخمة عديمة النوافذ، يوجد المفاعلان النوويان في مصنع تايشان، حيث تغطي كل منهما مادة الفولاذ المقاومة للصدأ وتحميهما جدران سميكة بشكل كاف، لتحمل ضربة مباشرة من طائرة من طراز بوينج 747.
يقول جو روتينج، نائب كبير المهندسين، وهو يربت على توربين بخاري بقدرة 1750 ميجا واط في المصنع في مقاطعة جوانجدونج: “هذا هو طفلي الصغير”.
محطة توليد الكهرباء، المملوكة من قبل مجموعة شركة الطاقة النووية العامة الصينية المدعومة من الدولة (سي جي إن)، هي سادس مشروع من هذا القبيل لجو في تاريخ مهني يمتد لثلاثة عقود. وهي أيضا واحدة من نحو 30 محطة نووية تقوم بكين ببنائها، أو تعتزم بناءها، في بنية تحتية مندفعة لتلبية تعطش الصين للطاقة.
إمكانية الدخول إلى الموقع مقيدة بشكل محكم. وفي الوقت الذي تتأرجح فيه أذرع الرافعة في الأعلى ويكدح العمال الذين يرتدون الملابس المخصصة للمرجل -حيث إن هناك عشرة آلاف شخص يعيش ويعمل في ذلك الموقع- في الخارج في حرارة مرتفعة في منطقة شبه مدارية، يقول جو إن المصنع سيكون “الأول من نوعه” الذي يجري بناؤه في العالم.
هذه المحطة ذات التصميم الفرنسي، التي بعد خمس سنوات من التشييد والبناء على وشك الخضوع للاختبار، ستكون بمثابة نموذج لمحطة طاقة ضخمة تعتزم المملكة المتحدة بناءها في جنوب غرب إنجلترا. ويتوقع أن تبلغ التكلفة 18 مليار جنيه استرليني وفقا لأحدث التقديرات لمجموعة الطاقة الفرنسية (إي دي إف)، التي تتولى إدارة المشروع.
هينكلي بوينت، في سومرسيت، هي موطن محطة الطاقة النووية ومفاعلي ماجنوكس المهجورين. والآن، يريد ديفيد كاميرون، رئيس وزراء المملكة المتحدة، استخدام الموقع بحلول عام 2030، لاستضافة أول جيل جديد من المفاعلات التي يتوخى أنها ستحل محل أسطول بريطانيا النووي الذي عفا عليه الزمن.
في إطار اتفاق تجاري أبرم خلال زيارة رسمية قام بها الرئيس الصيني تشي جين بينج في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي إلى لندن، ستأخذ شركة الطاقة النووية الصينية العامة حصة الثلث في بناء المحطة النووية في هينكلي.
وقد تشارك أيضا منافستها المملوكة للدولة، الشركة النووية الوطنية الصينية. بعد عقد من الآن، على افتراض أن كل هذا سيتم حسب المقرر، ستكون قباب مفاعل تايشان المميزة ذات الشكل البيضاوي، والجدران المزدوجة والتوربينات الهائلة مهيمنة على الخط الساحلي لمصب نهر سيفيرن. وستقدم هينكلي بوينت سي 7 في المائة من إمدادات الكهرباء في المملكة المتحدة.
أهداف الطاقة المتجددة
بعد كارثة فوكوشيما النووية في اليابان عام 2011، كان هناك قليل من الدول الغربية التي تقوم ببناء المفاعلات، لكن المملكة المتحدة ماضية قدما بخطط لبناء مفاعلات بقدرة جديدة تبلغ 16 جيجا واط بحلول عام 2025- مقارنة بالقدرة الموجودة الآن وهي 10 جيجا واط- ما يزودها بنحو سدس احتياجاتها من الكهرباء.
وخلف هذه النهضة البريطانية النووية هناك أهداف صعبة لخفض انبعاثات الكربون ورغبة في الحد من الاعتماد على الغاز المستورد. تحتاج الطاقة النووية إلى أن تكون جزءا من هذا المزيج لأنها أكثر موثوقية من مصادر الطاقة المتجددة، التي تعتمد على ضوء الشمس أو الرياح أو المد والجزر، بحسب ما يقول الوزراء.
على أي حال، هذا أمر مثير للجدل: حيث إن كثيرا من الناس يعترضون على المشروع على أسس السلامة، في الوقت الذي أثار البعض الآخر مخاوف أمنية وطنية تتعلق بالسماح للصين بناء المعامل في البلاد.
تعيش الصين الآن منذ فترة فورة بناء نووية، حيث إنها آخذة في بناء مفاعل كل بضعة أشهر لتلبية هدف -يعتبر الأكثر إلحاحا بسبب الضباب الدخاني في بكين- بأن تتزود من مصادر غير الوقود الأحفوري ما يكفي خمس استهلاك الكهرباء بحلول عام 2030. كما أنها ترغب أيضا في تصدير خبرتها في البناء النووي، وفي نهاية المطاف، تصدير تصاميمها ومخططاتها. كما أنها تستشعر فرصة تجارية لم يسبق لها مثيل في بريطانيا.
تأمل بكين بأن تساعد مشاركتها في هينكلي-وفرصة بناء تصميمها هوالونج وان في برادويل في إيسيكس- في إقناع العالم بأن الصناعة النووية الصينية هي على قدم المساواة مع منافساتها الفرنسية واليابانية.
يقول شي جياجي، مسؤول كبير في الشركة النووية الوطنية الصينية (سي إن إن سي): “لدينا فكرة أن قيام حكومة المملكة المتحدة أخيرا باستخدام التكنولوجيا الصينية يعتبر انتصارا للصين. سوف نكون أحد اللاعبين الرئيسين في السوق الأكثر رقيا. لذلك ستصبح علامتنا التجارية، العلامة التجارية الصينية، مشهورة وأكثر قدرة على المنافسة”.
تبذل الصين جهودا لإدخال المعرفة المتعلقة بالطاقة النووية لديها بشكل قوي في جميع أنحاء العالم. ولديها آمال عالية بالنسبة لأمريكا اللاتينية، رغم اقتصادها المتباطئ. بموجب اتفاقية أعلن عنها في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، سوف تمول الشركة النووية الوطنية الصينية (سي إن إن سي) وتبني اثنتين من محطات توليد الطاقة النووية في الأرجنتين، في صفقة تبلغ قيمتها ما يصل إلى 15 مليار دولار.
المفاعل الأول ستبلغ كلفته نحو ستة مليارات دولار وسيستخدم التكنولوجيا النووية الكندية (كاندو)، بينما سيستخدم المفاعل الثاني، مثل المصنع المقترح برادويل، مفاعل هوالونج وان الصيني.
يرى المحللون أيضا طلبا محتملا في جنوب إفريقيا، حيث يوجد خطط لإضافة مفاعل بقدرة جديدة تبلغ 9.6 جيجا واط.
لا وقت لارتكاب الأخطاء
في شينزن، يحاول المسؤولون التنفيذيون في شركة الطاقة النووية الصينية العامة بث الثقة في المجموعة البالغة قيمتها 390 مليار رنمينبي (60 مليار دولار) والتي نمت بسرعة، من مشغل إقليمي في مقاطعة جوانجدونج ومستضعف للشركة النووية الوطنية الصينية، إلى أن تراودها طموحات جادة للنمو على المستوى الدولي.
يقول تشينج دونجشان، النائب الأعلى للرئيس في شركة الطاقة النووية الصينية العامة: “رؤيتنا هي أن نكون الرواد في العالم في مجال الطاقة النظيفة. نريد التعلم من الآخرين، ليس فقط تعلم الممارسات الجيدة، بل أيضا التعلم من الأخطاء التي يرتكبها الآخرون”.
ليس بإمكان شركة الطاقة النووية الصينية العامة أن تتحمل الأخطاء في تايشان، واحدة من المشاريع الثلاث غير المكتملة التي تستخدم تكنولوجيا الجيل الثالث التي تسمى بالمفاعل المضغوط الأوروبي.
وهذه المفاعلات، التي تم تصميمها من قبل شركة أريفا الفرنسية، تتم الطنطنة لها على أنها ثورة في عالم الطاقة النووية، لكن كانت لها بداية مضطربة في مشاريع فلامانفيل في فرنسا وأولكيليوتو في فنلندا.
ولقد عانت شركة تايشان، أيضا تأخيرات، ولو أنها لم تكن سيئة كتلك التي حدثت في أوروبا. نتيجة لذلك، فإن شركة الطاقة النووية الوطنية العامة تسير بخطى حذرة. فقد تم لمرة واحدة إرجاء موعد الإنهاء المحدد للمصنع الصيني، الذي كان أصلا في أواخر عام 2013، جزئيا بسبب قواعد السلامة بعد كارثة فوكوشيما. والآن، من المحتمل أن يبدأ التشغيل في عام 2017 -رغم أن الشركة لا تريد أن تذكر الموعد المحدد بالضبط. يقول السيد تشينج: “يجب علينا تأدية كثير من الاختبارات، وحيث إنها الآن الأولى من نوعها، نحتاج إلى القيام بمزيد من الاختبارات أكثر مما خططنا له. وكان من المفترض أن تكون هذه الاختبارات قد أجريت من قبل في فنلندا أو فرنسا، لكن يجب علينا إجراؤها الآن”.
تسلط مشكلات البناء والتشييد الضوء على درجة تعقيد مشاريع المفاعلات المضغوطة الأوروبية. وهناك تساؤلات حول ما إذا كان هنالك بالفعل طلب على تلك المفاعلات الأكبر حجما، نظرا لحجمها وتكلفتها. رغم ذلك، يبدو جو متفائلا. ويقوم بسرد إمكانات مشاريع المفاعلات الأوروبية أمام بوابة يبلغ وزنها 80 طنا والتي ستغلق يوما ما ساحة المفاعل.
يقول: “إنه الأكثر أمانا. حيث يمكنه تحمل حادث مثل حادثة جزيرة ثري مايل في أمريكا. ويمكنه منع حدوث كارثة مثل تشيرنوبل وفوكوشيما، كما أن بإمكانه أيضا الحماية من حادث تحطم طائرة كتلك التي حدثت في الـ11 من سبتمبر”.
على الرغم من تكلفة التشييد الضخمة مقدما، إلا أن حجم المصنع يعني أنه سيكون له ضعف حجم قوة توليد عديد من المفاعلات الصغيرة، ما يجعله أكثر ربحية في التشغيل، بحسب ما يقول.
يختلف النقاد البريطانيون مع هذا الرأي. ويقولون إن السبب الرئيس في أن مشروع هينكلي سيكون مربحا هو بسبب الإعانات الكبيرة التي يجري دفعها لشركة الطاقة الفرنسية، وشركة الطاقة النووية الصينية العامة على شكل سعر مضمون للكهرباء التي سيولدها – 92.50 جنيه لكل ميجاواط في الساعة، أكثر من ضعف سعر السوق الحالي الإجمالي في المملكة المتحدة، وهي تكلفة سوف تتحملها الأسر المعيشية. بحسب بعض التقديرات، الرياح البحرية هي فقط الأكثر تكلفة من الطاقة النووية.
يلقي بيتر أثرتون، محلل المرافق في بنك الاستثمار جيفريز، اللوم لهذه الإعانة الكبيرة على الجهود المندفعة لتحقيق الخفض في انبعاثات الكربون.
يقول: “هل ينبغي علينا تشجيع الصينيين على المشاركة في برنامجنا النووي؟ بالطبع، حيث إن لديهم خبرة ضخمة. على أي حال، الخطأ الكبير لدينا هو أننا لم نعمل على إيجاد المنافسة في الماضي”.
يتساءل هي شيو، عالم الفيزياء المتقاعد الذي ساعد في تطوير برنامج الصين النووي في الستينيات، عما إذا كانت الطاقة النووية ستكون آمنة أبدا بشكل فعلي، حتى مع وجود ضمانات لمنع حدوث كوارث مثل كارثة فوكوشيما.
ويستشهد بإحصائية: حيث إنه كان لدى كل من الولايات المتحدة وروسيا واليابان أكثر من 50 مفاعلا عندما عانوا الحوادث. بعبارة أخرى، كلما كان لدى البلد مفاعلات أكثر، ازدادت فرص حدوث أخطاء أو حوادث.
“المشكلة الرئيسة هنا هي الإدارة، حيث كانت جميع الكوارث النووية الرئيسة الثلاث فيها مشكلة في الإدارة. بالطبع، هنالك بعض المشكلات الفنية، لكن من السهل جدا تحسين الناحية الفنية. مع ذلك، مشكلة الإدارة ليس من السهل تحسينها”.
مخاوف المملكة المتحدة
هناك مخاوف أيضا من أن ميل بريطانيا باتجاه الصين -واحتضان وزير المالية جورج أوزبورن لاستثماراتها- سيفتح الباب أمام المخاطر الأمنية. فقد سبب تحول المملكة المتحدة في حدوث الذعر في الولايات المتحدة، التي تتهم قطاع الصناعة المملوكة للدولة في الصين بالاستفادة من تجسس الشركات المرتبطة بالجيش.
يقول باتريك كرونين، خبير منطقة آسيا في مركز الأمن الأمريكي الجديد، إن على بريطانيا الانتباه لموازنة احتياجاتها الاقتصادية مقابل مصالح الأمن الوطني، لاسيما فيما يتعلق بالهياكل الأساسية الحيوية كمصانع الطاقة النووية.
يقول كرونين: “دعونا نقول إنه بعد عشر سنوات من الآن سيكون هناك صراع كبير مع الصين. وهذا قد يمنح الصين، من الناحية العملية، حق الفيتو حول مشاركة المملكة المتحدة، على سبيل المثال، حول قضية تايوان في العقد المقبل”.
“يعتبر مجرد فهم أضعف أجزاء المفاعلات في بريطانيا مشكلة كبيرة. وقد يظهر مشروع صيني مملوك للدولة تلك المعلومات للأشخاص الذين لديهم نوايا سيئة نحو المملكة المتحدة، خاصة إذا كانت هناك أزمة”.
وقد أثيرت المخاوف أيضا في وايت هول حول إمكانية أن تكون الصين قادرة على بناء ثغرات رقمية في المعدات التي تقدمها، ما يسمح لبكين باستغلال نقاط الضعف الموجودة في المحطات النووية. ولقد فاقم تلك المخاوف كون الشركة الوطنية النووية الصينية العامة في الماضي، كمطور للأسلحة النووية للصين قبل أن تبني مفاعلات البلد المدنية.
يرفض كلا الفريقين الصينيين مثل هذه الاقتراحات. يقول تشينج: “لماذا كانت وسائل الإعلام في المملكة المتحدة تركز على هذه القضية؟ لأن مسالة الطاقة النووية حساسة….. أولا، أنهم لا يعرفون اللغة الصينية بشكل كاف، وثانيا، لا يعرفون كيف يقوم الصينيون بالبناء، وكيف تعمل المصانع النووية لديهم”.
كما أنهم يقولون أيضا إن مشاركة الصين قد تؤدي إلى خفض تكلفة الطاقة النووية في المملكة المتحدة. يتوقع تشينج “تأثيرا كبيرا” جراء البناء، لنقل، ما يصل إلى خمسة أو ستة مفاعلات في موقع واحد تكون قادرة على استخدام مستودعات مشتركة، ومشاغل وإمدادات المياه والكهرباء. وفقا لتشي، قد تعمل مثل هذه الوفورات في الحجم على خفض السعر الإجمالي المضمون إلى نحو 70 جنيها لكل ميجاواط في الساعة. حتى الآن، يبدو هذا أمرا غير محتمل في أي من مواقع المفاعلات المقترحة في بريطانيا. عندما تبدأ شركة الطاقة النووية الوطنية العامة الصينية عملية الموافقة التنظيمية المطولة في المملكة المتحدة لتصميم مشروع هوالونج وان، ربما في الصيف القادم، ستفكر في إنشاء مفاعلين اثنين.
هذه العملية، التي ستستغرق سنوات عديدة، ستكون اختبارا لعزم الصين – وما إذا كانت ستبقي على المسار في حال عملت التغيرات في الطلب في المملكة المتحدة على دفع التكاليف إلى الأعلى. بكين عاقدة العزم على النجاح، بحسب ما يقول أحد المسؤولين الغربيين: “برادويل مشروع أهم من أن يفشل. وسوف يكون نموذجا.
في الوقت الذي لا يمكنك فيه استبعاد المخاطر الأمنية، فإن الصينيين يعملون في هذا المشروع من أجل كسب المال”.