كتب محمد علي قبيسي في صحيفة “السفير”:
كيف يمكن تحاشي الإصابة بمرض السرطان الرئوي الناتج من وجود إشعاعات غاز الرادون في بيوتهم السكنية؟
هو السؤال الذي نحاول أن نجيب عنه في هذه المقالة. إن التأثير الصحي على البشر من خلال التعرض للإشعاعات النووية، سواء كانت اصطناعية أو طبيعية، أصبح من الاهتمام الأساسي عند الكثير من الدول. من المواد الخطرة على الإنسان في بيئته الطبيعية، والناتجة من الانحلال النووي الأساسي لليورانيوم، هو غاز الرادون المشع والذي هو وليد الراديوم Ra-226.
تتولد من هذا الغاز بعد انحلاله النووي عناصر أخرى مشعة، لذلك فهو خطر في أماكن وجوده البيئي، لأنه ليس له لون ولا طعم ولا رائحة وخامل، أي فاقد النشاط الكيميائي ولا يتحد مع عناصر أخرى.
إن تنفس غاز الرادون من قبل الأفراد داخل البيوت السكنية كان ولا يزال الهم الأكبر عالمياً عند الباحثين في الأمور الصحية. فلقد ثبت علمياً أن إشعاعاته وتلك الناتجة من مواليده تسبب مرض التورم السرطاني في الرئة. فغاز الرادون يستطيع أن يتسرب بين الصخور ذات التفسخ ومن خلال التربة. لذا يمكن لهذا الغاز أن يدخل البيوت السكنية من باطن الأرض ويتمركز في داخل الغرف السكنية، داخلاً إلى الرئة عن طريق التنفس.
الغرانيت هو الأخطر
يتسرب غاز الرادون إلى طوابق البيوت السكنية حسب الطرق التالية: 1ـ من خلال التشققات الأرضية. 2 ـ من خلال تلاقي الجدران في بناء السكن 3 ـ من خلال تفسخات تبليط الجدران، 4 ـ من خلال تلاقي الجدران مع الأرض. 5 ـ عن طريق مياه الحمامات.6 ـ من مواد البناء. 7 ـ التسرب من الخارج.
كما أن الرادون موجود في مواد البناء كالغرانيت، والرمل والسيمنت، والجفصين والفوسفات والتي تبثه إلى داخل المنازل. فالغرانيت هو أهم مصدر لبث الرادون إلى داخل المنازل السكنية وأخطرها وذلك لاحتوائه على مواد مشعة كما سنرى أدناه. ففي حال تنشق غاز الرادون لمدة طويلة يمكن أن يسبب داء السرطان في الرئة، كما حدث ويحدث لعمال مناجم اليورانيوم.
ففي أثناء وجوده في الرئة تتولّد منه عناصر جامدة، أي غير غازية، كالبولونيوم والرصاص المشعين. هذه المواليد هي ذات نشاط إشعاعي وتبقى في المكان الرئوي الذي ولدت فيه، حيث تقصف إشعاعاته وإشعاعات مواليده الأنسجة العضوية وخلاياها وتدمر الحمض النووي في الرئة، مسببة بذلك نشوء التورم السرطاني في هذا العضو الحيوي للإنسان.
إن خمسين بالمئة (50%) من تعرض البشر للإشعاعات النووية الطبيعية تأتي من غاز الرادون. لذا أصبح من الضروري لكل فرد تحاشي هذا التعرض، بأن تقاس كثافة غاز الرادون في البيوت السكنية، حيث يقضي الناس معظم أوقاتهم، كما فعل كاتب هذه المقالة بقياس كثافة غاز الرادون في الأماكن السكنية في بعض القرى في جنوب لبنان كما سنذكر لاحقاَ.
تعتبر هذه الظاهرة المرضية، الناتجة من تنفس الرادون، وقصف إشعاعاته للحمض النووي، اللاعب الأساسي في تكوين الإنسان، في كينونة للعقل المدبر لتكوين الخلية وسلوكها، هي حريّة بإقامة أبحاث علمية في ما يخص وجود غاز الرادون في البيوت السكنية. من خلال ملاحظة الشكل الحلزوني للحمض النووي، يمكن الملاحظة ايضا كيف تتلولب الجديلتان في منظومة وحدات متناسقة: هذه الجديلات تتعرض لقصف إشعاعات الرادون ومواليده… وهكذا تُدمّر ينبوعةُ الحياة.
على الضرر الصحي لغاز الرادون، دفع الكثير من الباحثين والعلماء في العالم، وخصوصاً في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، للقيام بأبحاث علمية في ما يخص كثافة الرادون في البيوت السكنية، وذلك لرصد وقياس مستوى كثافته في داخل المساكن، والمدارس، والمستشفيات، وقياس الإشعاعات في مواد البناء. كما دفع بعض الدول لإدخال القوانين التي تنص على كيفية وضع البنى التحتية لبيوت السكن بحيث تأخذ بعين الاعتبار كيفية تقليل كثافة غاز الرادون داخل السكن واقتراح العلاجات المناسبة لتحاشي التعرض الناتج من تنفس غاز الرادون.
إن المعيار لقياس كثافة غاز الرادون في محيط فضائي يسمى “البكرل في المتر المكعّب”. فعندما نقول بأن كثافة الرادون في محيط ما هو مئة بكرل في المتر المكعّب، يعني أن هناك مئة ذرة رادون في المتر المكعّب تبث إشعاعاتها في ذلك المحيط.
نتائج أبحاث لبنانية
حددت منظمة الصحة العالمية (WHO) المستوى الأعلى لكثافة غاز الرادون في المنازل بأن لا يتعدى مئة بكرل في المتر المكعّب.
ليس في لبنان أبحاث حول غاز الرادون المشع وكثافته في البيوت السكنية، ما دفع كاتب هذه المقالة إلى تكوين مجموعة من الباحثين وتأليف فريق بحث علمي لقياس المواد المشعة، كاليورانيوم ومولّداته، في مواد البناء في الجنوب اللبناني. فضمن دراستنا تم قياس كثافة غاز الرادون داخل البيوت السكنية في بلدة الخيام وبعض القرى المحيطة بها، حيث سنقدم أدناه عرضاً لهذه النتائج في الفقرات اللاحقة. في البدء قمنا بقياس العناصر المشعة في مواد البناء المستخرجة من المقالع المنتشرة ما بين خط المصنع – بيروت والحدود الجنوبية للبنان، حيث أظهرت النتائج لكثافة الراديوم (المولّد للرادون) في الرمال مستوى طبيعي ما عدا الرمال المستخرجة من مرامل منطقة الباروك الجبلية والتي كانت قيمتهاBq / kg 60.8، أي سبعة أضعاف لتلك المستخرجة من رمال منطقة الخردلي 7.2 Bq / kg مثلاً. أما في السيمنت فقد تساوت قيمة الراديوم فيه مع قيمة الراديوم في الرمال المستخرجة من الجبال الصخرية.
إن المواد التي خضعت لقياسات بث الإشعاعات كانت مواد الغرانيت المتعددة الأنواع والتي تستعمل في المطابخ وكثيراً في تبليط أرضيات المنازل. بينت الابحاث أن هذه المواد غنية في العناصر المشعة وذلك لاحتوائها عنصر اليورانيوم أكثر من غيرها من مواد البناء. فقد قمنا بدراسة 28 نوعاً من الغرانيت، أظهر البعض منها نسبة عالية من العناصر المولدة لأشعة غاما والتي يزيد اختراقها للجسم البشري ملايين المرات عن تلك التي تستعمل في التصوير الطبي في المستشفيات. هذه الأنواع من الغرانيت العالية الإشعاع (في الجدول المرفق) مع كثافة العناصر المشعة فيها، يجب ان لا تستعمل داخل البيوت السكنية، وخصوصاً في غرف المطابخ، ما قد يضر الأجنة في بطون الحوامل.
أما نتائج الدراسة لقياس كثافة غاز الرادون التي حصلنا عليها داخل البيوت السكنية في منطقة الجنوب، فقد بينت ان قيمة كثافة الرادون تحت المستوى المسموح به عالميا ما عدا بعضها كانت فيها فوق المعدل المسموح به، أي 100 بكرل في المتر المكعب. ظهرت بعض الكثافة العالية لغاز الرادون في بعض الغرف أو كلها في البيوت السكنية، حيث اقترحنا على أصحاب تلك المنازل الحلول الضرورية لتحاشي تأثير الرادون على صحتهم.
وإضافة إلى قياس كثافة الرادون في المنازل السكنية قمنا بتحديد أنواع الغرانيت فيها، حيث تم قياس محتوى كثافة عنصر الراديوم المولد لغاز الرادون في تلك الأنواع.
توصيات
ونظراً للإصابات العالية لمرض السرطان في لبنان، وبناء على النتائج أعلاه لهذه الدراسات، كان الهدف من هذه المقالة خلق وعي مجتمعي في ما يخص البيئة الإشعاعية داخل المنازل السكنية في هذا البلد. لذلك نوصي بما يلي في ما يخص البيئة الإشعاعية لغاز الرادون:
1ـ إنشاء استراتيجية تضع مخططاً لقياس كثافة غاز الرادون في البيوت السكنية.
2ـ إنشاء قوة ضاربة تتألف من أصحاب معرفة في حماية الأفراد من الإشعاعات النووية.
3ـ دراسة تركيبة القشرة الأرضية للأماكن السكنية.
4ـ تقسيم المناطق اللبنانية إلى دوائر لتسهيل تنفيذ مخططات قياس غاز الرادون.
5ـ القيام بمحاضرات توعية للمجتمع بشأن الضرر الذي تسببه إشعاعات الرادون للمجتمع البشري.