لم تكد تنطوي صفقة إطلاق 16 عسكرياً لبنانياً خطفتهم «جبهة النصرة» ما بين الأول من آب 2014 والأول من كانون الأول 2015، حتى بدأ الأمن العام بتركيز جهده على الجزء الثاني والأخير من هذا الملف الانساني والمتمثل بإطلاق سراح تسعة عسكريين لبنانيين أسرى لدى تنظيم «داعش»، فيما فتحت أبواب ملفات إنسانية أخرى، بعضها لبناني وبعضها الآخر على صلة بالأزمات التي تحيط بلبنان، لكن قيادة الأمن العام تحرص على إحاطة معطياتها بالكتمان الشديد من أجل توفير الظروف المناسبة لإنجازها وبلوغ خواتيمها المنشودة.
وليس خافيا أن عملية التبادل بين الحكومة اللبنانية و«النصرة» لم تكن لتنجز بمعطياتها الذاتية البحتة، لو لم تدخل على الخط عناصر أخرى، لبنانية وخارجية، ساعدت في الإنضاج والدفع والتنفيذ، وهذه القاعدة ربما تسري على الملفات التي يجري العمل عليها حاليا.
ستة عشر شهرا عاشها ستة عشر عسكريا لبنانيا في قوى الامن الداخلي والجيش خطفتهم «جبهة النصرة» واقتادتهم الى جرود عرسال أشهراً طويلة من المعاناة والانتظار انتهت بإطلاق سراحهم بدور قطري وبأدوار إيجابية لكل من سوريا وقيادة «حزب الله» والحكومة اللبنانية وبعض الشخصيات السياسية اللبنانية.
تنشر «السفير» بالتعاون مع مجلة «الأمن العام»، رواية الأمن العام لكل محطات عملية التبادل في مراحلها الأخيرة.
في 8 تشرين الاول 2015، اجتمع اللواء عباس ابراهيم بالأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله وأبلغه بما يملك من معطيات تساعد على إقفال ملف العسكريين لدى «النصرة»، متمنيا عليه المساعدة وبالتالي الدخول على خط التواصل مع القطريين، في ضوء المؤشرات المتبلورة، وكان رد الأمين العام للحزب إيجابيا، واعدا بخطوة ما حيال الديوان الأميري القطري، على أن يطلعه لاحقا على نتائجها.
وفي مطلع تشرين الثاني، تبلغ ابراهيم من نصرالله انه حادث المسؤولين القطريين الذين وعدوه بتحريك الملف وتعزيز وساطتهم في وقت قريب، وبالفعل، تبلغ ابراهيم بعد أيام قليلة من مدير أمن الدولة القطري غانم الكبيسي ان عليه توقع اتصال قريب من موفده، وهو في طريقه الى بيروت، واعدا بإنهاء قضية تبادل العسكريين.
ومن اسطنبول، اتصل الموفد القطري بخلية ضباط الأمن العام المعنيين بمتابعة ملف العسكريين المخطوفين، مرجحا طي الملف نهائيا في وقت وشيك. وطلب إبلاغ ابراهيم بهذا التطور، تمهيدا لتبادل لوائح الشروط توصلا الى اتفاق نهائي كان قد تضمن الآتي:
1ـ إطلاق عدد من السجينات في سوريا.
2ـ إطلاق 13 سجينا في لبنان بدلا من 16، بعدما اكتشفت «النصرة» ان ثلاثة منهم لا يدينون بالولاء لها، فشُطِبوا من اللائحة.
3ـ إرسال 13 شاحنة تموين الى النازحين السوريين في مخيمات عرسال داخل البلدة.
4ـ السماح لقناة «الجزيرة» القطرية فقط بالنقل التلفزيوني لتنفيذ الاتفاق.
5ـ التكتم الإعلامي المطلق على مسار تنفيذ الاتفاق.
أخضع اللواء ابراهيم بنود الاتفاق للدرس، وتبين له ان معظم الموقوفين الـ13 في السجون اللبنانية، الواردة أسماؤهم في لائحة الشروط، أنهوا عقوبتهم تبعا للأحكام القضائية الصادرة في حقهم.
تكامل دور الأمن العام والقضاء تحت سقف القرارات الاستثنائية التي اتخذتها خلية الازمة الوزارية برئاسة رئيس الحكومة تمام سلام، وأبرزها عدم إطلاق أي موقوف متورط بجرائم وملطخة يداه بالدم، وتم إبلاغ القطريين بالموافقة على الصفقة.
وعلى الفور، حضر الى بيروت وفد قطري وباشر اجتماعاته مع ضباط الامن العام المعنيين، قبل ان يطلب الاجتماع باللواء ابراهيم الذي كان قد عقد حينذاك سلسلة اجتماعات مع رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس الحكومة تمام سلام ووزير الداخلية نهاد المشنوق، وأطلعهم على تطورات التفاوض ما جعله يرجح إبرام اتفاق التبادل في وقت قريب.
قضى الاتفاق بتنفيذ بنوده الاحد 29 تشرين الثاني، وتحديدا عند الثانية عشرة ظهرا. حتّم التنفيذ ايضا التوصل الى وقف للنار في الساعات الثماني والاربعين التي تسبقه في الموعد المحدد، بغية إنجاز المهمة في هدوء وسلام وأمان. اذ ذاك قصد ابراهيم قائد الجيش العماد جان قهوجي، واتصل بقيادة «حزب الله»، ثم زار دمشق سعيا الى الحصول على وقف للنار من كل الأطراف المتقاتلين، وخصوصا في سوريا (بما في ذلك الروس)، وبالفعل، أثمرت الاتصالات هدنة عسكرية، تكرس موعدها مع الموعد النهائي لتنفيذ اتفاق التبادل ظهر الاحد 29 تشرين الثاني.
الرابعة فجر الاحد، خابر ابراهيم خلية الضباط للاطمئنان على سير تحضيرات تنفيذ الاتفاق، بعدما أصر ليل السبت على انطلاق شاحنات المساعدات الغذائية الى عرسال، وكانت تحتاج الى قرابة أربع ساعات للوصول الى المكان المتفق عليه لركونها، على أن تراعى في تحرك القافلة السرية التامة تفاديا للفت الانتباه.
إلا ان رئيس خلية الضباط العميد منح صوايا أخطر اللواء ابراهيم، الرابعة فجرا، بضرورة التريث بعدما انقلبت «جبهة النصرة» على الاتفاق برمّته، وأدخلت إليه شروطا جديدة بعد منتصف ليل السبت ـ الأحد، وكان رد إبراهيم حاسما: لتسر الأمور على نحو ما كان مقررا. ولتبق الشاحنات في مواقع وصولها من دون أي تعديل، وليصر الى جمع السجناء موضوع التبادل رجالا ونساء في المكان المتفق عليه في عرسال، في الموعد المحدد، بحضور الموفد القطري الذي كان لا يزال في بيروت، بعد اطلاعه على قرار الحكومة اللبنانية التزام المواعيد المتفق عليها لإتمام التبادل.
«النصرة» ترفع سقف مطالبها.. ولكن
كان المقصود من المضي في هذه الاجراءات، مواجهة استباقية مع أي اتهام يمكن ان تسوّقه «جبهة النصرة» الى الفريق اللبناني المفاوض بالمراوغة وعدم الإيفاء بتعهداته.
وعند الثانية عشرة من ظهر الأحد، رفعت «جبهة النصرة» سقف مطالبها، ومنها:
ـ إيصال شاحنات التغذية الى مخيمات النازحين السوريين خلف خطوط انتشار الجيش، الى ما بعد بلدة عرسال لجهة الاراضي السورية.
ـ قيام بعثات منظمات إنسانية بزيارة مخيمات النازحين من وقت الى آخر، ونقل الادوية ومواد الاغاثة اليها.
ـ ترتيب وضع الشيخ مصطفى الحجيري «ابو طاقية»، وتسهيل سفره من لبنان مع عائلته.
وما إن طرح شرط بت مصير «ابو طاقية»، حتى أمر اللواء ابراهيم بعودة الشاحنات والسجناء الى بيروت، خصوصا أنه كانت قد صدرت مذكرات قضائية بملاحقة الحجيري، ناهيك عن وجود حكم غيابي بإعدامه.
في غضون ذلك، ظل الموفد القطري على تواصل مع المسؤولين في «جبهة النصرة» في اسطنبول، وهم يشغلون مناصب رفيعة في تنظيمهم تفوق منزلة أمير «النصرة» في القلمون أبو مالك التلي، وعاود ابراهيم اتصالاته بقائد الجيش وبرئيس الحكومة الذي أكد المضي في تحقيق المطالب ذات المنحى الإنساني للنازحين السوريين في المخيمات. استقر الرأي على تلبية بعضها، وأخصها المتصل بالكشوفات الطبية وشؤون الاغاثة والتغذية داخل عرسال وخارجها لأسباب إنسانية بحتة.
«ابو طاقية» يعقد الصفقة.. لساعات
في اليوم التالي، أي الاثنين 30 تشرين الثاني، أبلغ الأمن العام «جبهة النصرة» بالموافقة على جزء من الشروط وليس بينها موضوع «أبو طاقية». ولم تمض ساعات قليلة حتى تبلغ الأمن العام من الموفد القطري في بيروت بأن شرط مصطفى الحجيري سُحب من التداول. وتبين لاحقا أن هذه المرونة ناجمة عن اتصالات أجرتها قيادة «حزب الله» بمسؤولين قطريين. وتقرر عندئذ استكمال تنفيذ الاتفاق على نحو ما كان مرسوما له.
على هذا الأساس، توجه اللواء ابراهيم الى مقر قيادة اللواء الثامن في الجيش في بلدة اللبوة في البقاع، بعدما تبلغ من خلية الضباط شروطا جديدة للخاطفين، وان الموفد القطري ينتظر اتصالا من اسطنبول يزيل العراقيل في طريق تنفيذ الاتفاق. ثم ما لبث ان أحيط علما بأن ابو مالك التلي يشترط إتمام الاتفاق ليل الاثنين ـ الثلاثاء (30 تشرين الثاني).
وافق المفاوض اللبناني على التوقيت ليلا، وكان اللواء ابراهيم قد خبر حالا مماثلة لدى تنفيذ اتفاق التبادل في قضية راهبات دير سيدة معلولا.
وتحسّبا لمكمن يمكن أن يستهدف الاتفاق في أوان تنفيذه، عاين اللواء ابراهيم جرود عرسال لتعيين الموقع المناسب في أفضل ظروف أمنية ولوجستية، فاختار حاجز وادي حميد في منطقة تقع في آخر عرسال، على قاعدة أنها منطقة آمنة وممسوكة وتحت سيطرة نيران الجيش. تبلغ الخاطفون بالمكان فوافقوا على الفور. تقرر اذ ذاك تحديد الساعة الصفر للتنفيذ الحادية عشرة ليل الاثنين 30 تشرين الثاني. إلا ان التلي كشف للوسطاء انه تلقى تهديدات من «داعش» باجتياح مراكزه إن عمد الى تسليم العسكريين اللبنانيين. وقال انه خشية تعرضهم لأي مكروه، يقترح التنفيذ مجددا ظهر الثلاثاء في الاول من كانون الاول.
عند الخامسة من فجر الثلاثاء، حدد الخاطفون العاشرة من قبل الظهر موعدا للتبادل، على أن يجري في المنطقة المحددة. طلب اللواء ابراهيم من الضباط نقل شاحنات المساعدات والموقوفين والموقوفات الى حاجز الجيش حيث ينطلق التبادل، وأوعز الى الصليب الأحمر اللبناني موافاة القافلة الى هناك، الى ان اكتملت التحضيرات اللوجستية.
صباح الثلاثاء، جاء خبر ان «جبهة النصرة» ستسلم جثة الجندي الشهيد محمد حمية التاسعة والنصف عند مدينة الملاهي في عرسال، في قطاع انتشار الجيش. وافق المفاوض اللبناني، ووجد في هذا الموقف موعدا اختباريا ينذر بجدية تنفيذ الاتفاق وصولا الى مراحله النهائية، علما أن الأمن العام رفض في وقت سابق المضي في تنفيذ اتفاق يستثني جثة الشهيد حمية، وكان في حساب الخاطفين حينذاك أن يستخدموها في مقايضة منفصلة، وكان جواب اللواء ابراهيم: «الجثة قبل الأحياء».
قضى الاتفاق بإرسال خمس شاحنات مساعدات غذائية في مقابل جثة الشهيد حمية، وثماني شاحنات اخرى في مقابل العسكريين المخطوفين. وافق الخاطفون، فأنجزت الصفقة كاملة.
اللحظات الأخيرة
عند العاشرة صباحا، تسلمت قوة من الأمن العام، مكلفة تنفيذ الشق اللبناني في المهمة، جثة الجندي الشهيد، وبدأت للتو المراحل التنفيذية للاتفاق. وزّع الأمن العام السجناء موضوع المقايضة على ثلاث سيارات للصليب الاحمر، وأرسل اخرى تأتي بالعسكريين المخطوفين، على أن ينطلق التبادل متزامنا ما بين المنطقتين، كي يصلوا في وقت واحد الى نقطة التبادل.
طلب التلي إرسال السجناء والسجينات للتثبت منهم ـ بحضور أعضاء في هيئة علماء القلمون ـ اذا كانوا يريدون البقاء في لبنان أو الانتقال الى الجرود، وتم نقلهم جميعا على هذا الأساس باستثناء شقيقة ابو مالك التلي وجومانة حميد، وقيل للتلي: عندما ينطلق موكب العسكريين من هناك نلاقيهم بهما (قالت جومانة حميد انها تريد البقاء في عرسال، وعبرت شقيقة التلي عن رغبتها في السفر الى الخارج).
ما إن انطلق موكب العسكريين اللبنانيين، حتى أرسلت شقيقة التلي وجومانة حميد الى أبو مالك التلي الذي اجتمع بشقيقته ربع ساعة، برغم أنه كان قد اطمأن الى سلامتها سابقا بعدما أرسل الامن العام اليه فيلما مصورا لها تخاطبه وتعلمه انه اذا لم يصر الى إتمام التبادل بسرعة قصوى، فإن اللواء ابراهيم مضطر لردها الى «السجن في سوريا» من حيث جيء بها، في ضوء مهلة حددتها السلطات السورية، ثم قالت في الشريط المصور وهي في حالة انهيار: هذا أمر لا أريده أيا يكن الثمن.
ترك الشريط أثره في ابو مالك التلي كي يستعجل إنجاز الاتفاق، خصوصا أنه يكن لشقيقته منزلة خاصة اذ يعدّها أمه الثانية من فرط اعتنائها به صغيرا.
منذ تلك اللحظة، تبدلت تصرفات التلي وتغير مسار المفاوضات، الى أن صار الى تنفيذ الاتفاق.
لم تكن المسافة الفاصلة بين موقعي الانطلاق والتبادل تتجاوز كيلومترا واحدا تحت سيطرة الجيش.
جيء بالعسكريين اللبنانيين الى ثكنة اللواء الثامن في اللبوة، وأخضعوا فورا لفحوص طبية، ثم قصوا شعرهم ولحاهم وارتدوا بزاتهم العسكرية، وانطلقوا برفقة اللواء ابراهيم من اللبوة الى السرايا الكبيرة حيث أقيم لهم استقبال رسمي وشعبي كبير.