كتبت ربى منذر في صحيفة “الجمهورية”:
للطائفة الأرمنية مع ليلة عيد الميلاد حكاية من نوعٍ آخر، فهذا الشعب الذي كان أوّل مَن اعتنق المسيحية في العالم لم يترك للوقت القدرة على تذويب عيده في أعياد الطوائف الأخرى، فالأرمن ما زالوا محافظين على التقاليد القديمة التي اتّبعها المسيحيون حتى العام 301 ميلادي تقريباً، ومنها الإحتفال بيوم الميلاد في 6 كانون الثاني الذي يصادف عيد الغطاس لدى بقية الطوائف المسيحية، والذي يعود اختياره لكونه معروفاً بعيد «الظهور الإلهي»، ويشمل عمادة يسوع، زيارة المجوس، وعرس قانا الجليل أولى عجائب يسوع، والقاسم المشترَك بين هذه الأحداث هو تجلّي الله وإن بطرق مختلفة.أما وقد جاء العيد، فقد جالت «الجمهورية» في منطقة برج حمود، التي لم تختلف أمس عن الأيام العادية حيث تزدحم بالناس باستمرار، فيما يشعرك نمط حياة ساكنيها أنّ كلّ يوم هو عيد بالنسبة إليهم. أصوات تتعالى على الطرق، أناس يرتشفون القهوة على الرصيف، أجواء أخوية ترافق أحاديثهم، كلّ ذلك يُشعرك وكأنّ شوارعهم الضيّقة هي بيوت مفتوحة بعضها على بعض، يتصرّف فيها كلّ إنسان وكأنه بين أفراد عائلته.
ورودٌ حمراء تفترش إحدى حدائق برج حمود مستقبلةً الزوار، لتعكس إصراراً على عيش أجواء الميلاد على رغم الأوضاع السائدة في البلد.
التمنيات بأن يحمل العيد كلَّ الخير على لبنان والعالم تتصدر أماني الأرمن، فهم يعتبرون أنفسهم لبنانيين أباً عن جدّ مع أنهم يعتزّون بوطنهم الأصلي وجذورهم الأرمينية، ويحافظون على لغتهم الأم، ويتمسكون بعاداتهم وثقافتهم.
من اللافت أنّ الأرمن يعرفون تاريخهم بشكلٍ دقيق، ويعرفون سببَ الاحتفال بالعيد في يومٍ مختلف عن اليوم الذي يحتفل به المسيحيون، فتقول إحدى السيدات الأرمنيات: «في السّابق كان الجميع يحتفل بعيد الميلاد في 6 كانون الثاني، ولأنّ الشعب كان يمارس آنذاك طقوساً وثنية في 25 كانون الأول، اضطُر البابا إلى تغيير تاريخ العيد ليُنسي الناس هذه العادات، أما عند الأرمن فلا مشكلة في الموضوع إذ إنّ العادات الوثنية منسيّة من الأساس».
أما عن حركة التسوّق وهل ارتفعت خلال فترة العيد، فتؤكد «أننا نتبادل الهدايا ليلة رأس السنة، أما عيد الميلاد فهو مخصّص للصلاة فقط».
وتشير إحدى صاحبات المحال الى وجود «غصة في القلب باتت ترافق احتفالاتنا في الأعوام المنصرمة في ظلّ وجود النازحين، فما يشعرون به اليوم يذكرنا بمعاناتنا في السابق.
أمس أتت الى متجري إحدى النازحات وأخبرتني ما حصل معهم، شعرتُ وكأنّ جدتي هي المتحدّثة، التاريخ يعيد نفسه مع المسيحيين بالطرق نفسها، وإن تبدّل المجرمون، فمثلما سرقوا من جدتي أولادها الثلاثة، أو ذبحوا والدتها أمامها، أو حاولوا اغتصابها، هم يعيدون الكرّة ولو بعد 100 عام، الجزار هو نفسه لكنّ التسميات اختلفت ليبقى المضطهد المسيحي واحداً»، مشيرة الى أنّ «النازحين يصرّون على الاحتفال بالعيد ولو بقدرات متواضعة، ولأننا تهجّرنا نعرف قيمة الوطن ونخاف عليه ونشعر بغيرة على لبنان أكثر من أبنائه».
يُجمع أصحاب المتاجر على أنّ الإقبال على شراء البضائع تضاءل هذا العام، وأنّ التخفيضات بدأت قبل العيد لتشجيع الناس، ويشدّد أحدهم على أنّ «شراء الهدايا في العيد أمر ضروري سواء توافرت الامكانات المادية أو لا، فحتى أيام الحرب لم نتوقف عن الاحتفال وإهداء بعضنا، لكنّ الاتّكال اليوم هو على المغتربين اللبنانيين، أما النازحون فوضعهم فعلاً متأزّم والحركة الى تراجع».
وعن العادات التي يمارسها الأرمن في العيد، يوضح الأرشمندريت هوسيغ مرديروسيان لـ»الجمهورية» أنّ «سفرة الميلاد تكون مليئة بالفاكهة المجففة وذلك يعود للمكان الذي تقع فيه أرمينيا والذي يفتقد الى الفاكهة الطبيعية خلال أشهر العيد، ومن بين العادات أيضاً مباركة المياه بعد القداس».
وعن وضع النازحين المسيحيين، يشير الى أنّ «هذا الموضوع حساس بالنسبة إلينا، فنحن نشعر بمعاناتهم، كما أنّ الشرق هو أساس الديانة المسيحية وعندما نشعر أنّ أعداد المسيحيين تنخفض نتيجة التهجير تتولّد لدينا الحسرة على منطقتنا».
«غصة الرئاسة» في العيد
من اللافت أنّ الأرمن يعرفون قيمة وجود رئيس للجمهورية مسيحي في لبنان وهم يعتبرون أنّ المسيحيين اللبنانيين يفرّطون بهذا الموقع، إذ إنّ هذا الكرسي يمثل جميع المسيحيين في المنطقة وليس فقط في لبنان، وهو الموقع الأهم الذي تشغله هذه الطائفة، لكنّ المسيحيين في لبنان لا يعرفون قيمته الحقيقية، فيما المسيحيون في العالم العربي يعطون أهمية كبرى للموضوع.
للعيد عند الأرمن قيمة حقيقية، هم تناسوا الهدايا وركّزوا على المعنى الحقيقي وهو التقرّب من الله، حبهم القوي للبنان لم يمنعهم من الحفاظ على لغتهم وعاداتهم على رغم أنّ بعضهم لم يزر أرمينيا بعد، هم حفظوا تاريخهم وتعلّموا من تجارب أجدادهم فتمسّكوا بأرضٍ لم يتمسّك أهلها بها بهذا القدر.